فصل: رفض الإحرام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إحرام

الفصل الأوّل

التّعريف

1 - من معاني الإحرام في اللّغة‏:‏ الإهلال بحجّ أو عمرة ومباشرة أسبابها، والدّخول في الحرمة‏.‏ يقال‏:‏ أحرم الرّجل إذا دخل في الشّهر الحرام، وأحرم‏:‏ دخل في الحرم، ومنه حرم مكّة، وحرم المدينة، وأحرم‏:‏ دخل في حرمة عهد أو ميثاق‏.‏ والحرم - بضمّ الحاء وسكون الرّاء -‏:‏ الإحرام بالحجّ أيضاً، وبالكسر‏:‏ الرّجل المحرم، يقال أنت حلّ، وأنت حرم‏.‏ والإحرام في اصطلاح الفقهاء يراد به عند الإطلاق الإحرام بالحجّ، أو العمرة‏.‏ وقد يطلق على الدّخول في الصّلاة ويستعملون مادّته مقرونةً بالتّكبيرة الأولى، فيقولون‏:‏ «تكبيرة الإحرام ‏"‏ ويسمّونها ‏"‏ التّحريمة ‏"‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏صلاة‏)‏‏.‏ ويطلق فقهاء الشّافعيّة الإحرام على الدّخول في النّسك، وبه فسّروا قول النّوويّ في المنهاج‏:‏ «باب الإحرام»‏.‏ تعريف الحنفيّة للإحرام‏:‏

2 - الإحرام عند الحنفيّة هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة‏.‏ والمراد بالدّخول في حرمات‏:‏ التزام الحرمات، والمراد بالذّكر التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى‏.‏ والمراد بالخصوصيّة‏:‏ ما يقوم مقامها من سوق الهدي، أو تقليد البدن‏.‏ تعريف المذاهب الثّلاثة للإحرام‏:‏

3 - أمّا تعريف الإحرام عند المذاهب الثّلاثة‏:‏ المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة فهو‏:‏ نيّة الدّخول في حرمات الحجّ والعمرة‏.‏

حكم الإحرام

4 - أجمع العلماء على أنّ الإحرام من فرائض النّسك، حجّاً كان أو عمرةً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما الأعمال بالنّيّات» متّفق عليه لكن اختلفوا فيه أمن الأركان هو أم من الشّروط‏.‏ فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإحرام ركن للنّسك‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإحرام شرط من شروط صحّة الحجّ، غير أنّه عند الحنفيّة شرط من وجه، ركن من وجه أو ‏"‏ هو شرط ابتداءً، وله حكم الرّكن انتهاءً»‏.‏ ويتفرّع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفيّة وكونه يشبه الرّكن فروع‏.‏ منها‏:‏

1 - أجاز الحنفيّة الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ، مع الكراهة، لكون الإحرام شرطاً عندهم، فجاز تقديمه على الوقت‏.‏

2 - لو أحرم المتمتّع بالعمرة قبل أشهر الحجّ، وأتى بأفعالها، أو بركنها، أو أكثر الرّكن - يعني أربعة أشواط من الطّواف - في أشهر الحجّ يكون متمتّعاً عند الحنفيّة‏.‏

3 - تفرّع على شبه الإحرام بالرّكن عند الحنفيّة أنّه لو أحرم الصّبيّ، ثمّ بلغ بعدما أحرم، فإنّه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجّة الإسلام‏.‏ لكن لو جدّد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجّة الإسلام، جاز عن حجّة الإسلام عند الحنفيّة اعتباراً لشبه الرّكن في هذه الصّورة احتياطاً في العبادة‏.‏

حكمة تشريع الإحرام

5 - فرضيّة الإحرام للنّسك لها حكم جليلة، وأسرار ومقاصد تشريعيّة كثيرة، أهمّها‏:‏ استشعار تعظيم اللّه تعالى وتلبية أمره بأداء النّسك الّذي يريده المحرم، وأنّ صاحبه يريد أن يحقّق به التّعبّد والامتثال للّه تعالى‏.‏

شروط الإحرام

6 - يشترط الفقهاء لصحّة الإحرام‏:‏ الإسلام والنّيّة‏.‏ وزاد الحنفيّة، وهو المرجوح عند المالكيّة، اشتراط التّلبية أو ما يقوم مقامها‏.‏

7 - وقد اتّفقوا على أنّه لا يشترط في النّيّة للنّسك الفرض تعيين أنّه فرض في النّيّة، ولو أطلق النّيّة ولم يكن قد حجّ حجّة الفرض يقع عنها اتّفاقاً‏.‏ بخلاف ما لو نوى، حجّة نفل فالمذهب المعتمد عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّه يقع عمّا نوى‏.‏ وبهذا قال سفيان الثّوريّ وابن المنذر، وهو رواية عن الإمام أحمد‏.‏ وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا‏:‏ إن أحرم بتطوّع أو نذر من لم يحجّ حجّة الإسلام وقع عن حجّة الإسلام‏.‏ وبهذا قال ابن عمر وأنس‏.‏ وقالوا‏:‏ من حجّ عن غيره ولم يكن حجّ عن نفسه، ردّ ما أخذ، وكانت الحجّة عن نفسه، وبهذا قال الأوزاعيّ‏.‏ استدلّ الحنفيّة ومن معهم‏:‏ «بأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل، فإن كان عليه حجّة الإسلام يقع عنها استحساناً، في ظاهر المذهب أي إذا أطلق ولم يعيّن»‏.‏ وجه الاستحسان‏:‏ «أنّ الظّاهر من حال من عليه حجّة الإسلام أنّه لا يريد بإحرام الحجّ حجّة التّطوّع، ويبقي نفسه في عهدة الفرض، فيحمل على حجّة الإسلام، بدلالة حاله، فكان الإطلاق فيه تعييناً، كما في صوم رمضان»‏.‏ وقالوا في اعتباره عمّا نواه من غير الفرض‏:‏ «إنّما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النّيّة بدلالة حاله، والدّلالة لا تعمل مع النّصّ بخلافه»‏.‏ ويشهد لهم نصّ الحديث المشهور الصّحيح‏:‏ «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول‏:‏ لبّيك عن شبرمة‏.‏ قال‏:‏ من شبرمة‏؟‏ قال‏:‏ أخ لي، أو قريب لي‏.‏ قال‏:‏ حججت عن نفسك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ حجّ عن نفسك، ثمّ حجّ عن شبرمة»‏.‏ أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما‏.‏ وفي رواية‏:‏ «اجعل هذه عن نفسك‏.‏‏.‏‏.‏» فاستدلّوا بها‏.‏ وقد صحّح النّوويّ أسانيده، وتكلّم فيه غيره، فرجّح إرساله، ووقفه‏.‏ واستدلّوا بحديث ابن عبّاس أيضاً‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صرورة في الإسلام» أخرجه أحمد وأبو داود واختلف في صحّته كذلك‏.‏ قال الخطّابيّ في معالم السّنن‏:‏ «وقد يستدلّ به من يزعم أنّ الصّرورة لا يجوز له أن يحجّ عن غيره‏.‏ وتقدير الكلام عنده‏:‏ أنّ الصّرورة إذا شرع في الحجّ عن غيره صار الحجّ عنه، وانقلب عن فرضه، ليحصل معنى النّفي، فلا يكون صرورةً، وهذا مذهب الأوزاعيّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ واستدلّوا من المعقول‏:‏ «أنّ النّفل والنّذر أضعف من حجّة الإسلام، فلا يجوز تقديمهما عليها، كحجّ غيره على حجّه»‏.‏ وبقياس النّفل والنّذر على من أحرم عن غيره وعليه فرضه‏.‏

التّلبية

8 - التّلبية لغةً إجابة المنادي‏.‏ والمراد بالتّلبية هنا‏:‏ قول المحرم‏:‏ «لبّيك اللّهمّ لبّيك‏.‏‏.‏‏.‏»، أي إجابتي لك يا ربّ‏.‏ ولم يستعمل ‏"‏ لبّيك ‏"‏ إلاّ على لفظ التّثنية‏.‏ والمراد بها التّكثير‏.‏ والمعنى‏:‏ أجبتك إجابةً بعد إجابة، إلى ما لا نهاية‏.‏ حكم التّلبية‏:‏

9 - التّلبية شرط في الإحرام عند أبي حنيفة ومحمّد وابن حبيب من المالكيّة، لا يصحّ الإحرام بمجرّد النّيّة، حتّى يقرنها بالتّلبية أو ما يقوم مقامها ممّا يدلّ على التّعظيم من ذكر ودعاء أو سوق الهدي‏.‏ فإذا نوى النّسك الّذي يريده من حجّ أو عمرة أو هما معاً ولبّى فقد أحرم، ولزمه كلّ أحكام الإحرام الآتية، وأن يمضي، في أداء ما أحرم به‏.‏ والمعتمد عندهم ‏"‏ أنّه يصير محرماً بالنّيّة لكن عند التّلبية، كما يصير شارعاً في الصّلاة بالنّيّة، لكن بشرط التّكبير، لا بالتّكبير»‏.‏ وقد نقل هذا المذهب عن عبد اللّه بن مسعود، وابن عمر، وعائشة، وإبراهيم النّخعيّ، وطاوس ومجاهد، وعطاء بل ادّعى فيه اتّفاق السّلف‏.‏ وذهب غيرهم إلى أنّ التّلبية لا تشترط في الإحرام، فإذا نوى فقد أحرم بمجرّد النّيّة، ولزمته أحكام الإحرام الآتية، والمضيّ في أداء ما أحرم به‏.‏ ثمّ اختلفوا‏:‏ فقال المالكيّة‏:‏ هي واجبة في الأصل، والسّنّة قرنها بالإحرام‏.‏ ويلزم الدّم بطول فصلها عن النّيّة‏.‏ ولو رجع ولبّى لا يسقط عنه الدّم‏.‏ وسواء أكان التّرك أو طول الفصل عمداً أم نسياناً‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو منقول عن أبي يوسف - إلى أنّ التّلبية سنّة في الإحرام مطلقاً‏.‏

المقدار الواجب من لفظ التّلبية

10 - الصّيغة الّتي أوردها الفقهاء للتّلبية‏:‏ هي‏:‏ «لبّيك اللّهمّ لبّيك‏.‏ لبّيك لا شريك لك لبّيك‏.‏ إنّ الحمد والنّعمة لك والملك‏.‏ لا شريك لك»‏.‏ هذه الصّبغة الّتي لزمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، ولم يزد عليها والّذي يحصل به أداء التّلبية في الإحرام عند الحنفيّة هو ما يحصل به التّعظيم‏.‏ فإنّ المشروط على الحقيقة عند الحنفيّة أن تقترن النّيّة ‏"‏ بذكر يقصد به التّعظيم، كتسبيح، وتهليل ‏"‏ ولو مشوباً بالدّعاء»‏.‏

النّطق بالتّلبية

11 - يشترط لأداء التّلبية أن تلفظ باللّسان، فلو ذكرها بقلبه لم يعتدّ بها عند من يقول إنّها شرط، ومن يقول إنّها واجب، ومن يقول إنّها سنّة‏.‏ وتفرّع على ذلك عند الحنفيّة فرعان‏:‏

12 - الفرع الأوّل‏:‏ لو كان لا يحسن العربيّة، فنطق بالتّلبية بغير العربيّة، أجزأه اتّفاقاً‏.‏ أمّا لو كان يحسن العربيّة، فنطق بها بغير العربيّة، فلا يجزئه عند الجمهور، خلافاً للحنفيّة في ظاهر المذهب‏.‏ ودليلهم أنّه ذكر مشروع، فلا يشرع بغير العربيّة، كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة‏.‏ ودليل الحنفيّة أنّه ذكر مقصود به التّعظيم، فإذا حصل هذا المقصود أجزأه، ولو بغير العربيّة‏.‏

13 - الفرع الثّاني في الأخرس‏:‏ الأصحّ أنّه عند الحنفيّة يستحبّ له تحريك لسانه بالتّلبية مع النّيّة، ولا يجب‏.‏ وقيل‏:‏ يجب تحريك لسانه، فإنّه نصّ الإمام محمّد على أنّه شرط‏.‏ وعلى هذا ‏"‏ فينبغي ‏"‏ ألاّ يلزمه في الحجّ بالأولى، فإنّ باب الحجّ أوسع، مع أنّ القراءة فرض قطعيّ متّفق عليه، والتّلبية أمر ظنّيّ مختلف فيه‏.‏

وقت التّلبية

14 - الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة أن يلبّي بنيّة الحجّ أو العمرة أو نيّتهما معاً عقب صلاته ركعتين سنّة الإحرام، وبعد نيّة النّسك‏.‏ وإن لبّى بعدما استوت به راحلته أو ركوبته جاز، إلى أن يبلغ نهاية الميقات، فإذا جاوز الميقات ولم يلبّ بنيّة النّسك صار مجاوزاً للميقات بغير إحرام عند الحنفيّة، ولزمه ما يلزم ذاك عندهم‏.‏ وعند الجمهور يستحبّ البدء بالتّلبية إذا ركب راحلته، واستوت به، لكن يلزمه الدّم عند المالكيّة إن تركها أو أخّرها حتّى طال الفصل بين الإحرام والتّلبية كما تقدّم ‏(‏ف 9‏)‏‏.‏ ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة لقولهم إنّ التّلبية سنّة‏.‏

ما يقوم مقام التّلبية

15 - يقوم مقام التّلبية عند الحنفيّة لصحّة الإحرام أمران‏:‏ الأوّل‏:‏ كلّ ذكر فيه تعظيم للّه تعالى، كالتّسبيح، والتّحميد، والتّكبير، ولو بغير اللّغة العربيّة، كما سبق بيانه ‏(‏ف 10‏)‏ الثّاني‏:‏ تقليد الهدي وسوقه والتّوجّه معه‏.‏ والهدي يشمل الإبل والبقر والغنم‏.‏ لكن يستثنى من التّقليد الغنم، لعدم سنّيّة تقليد الغنم عند الحنفيّة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ هدي‏)‏ والتّقليد هو أن يربط في عنق البدنة أو البقرة علامةً على أنّه هدي‏.‏

شروط إقامة تقليد الهدي وسوقه مقام التّلبية

16 - يشترط‏:‏

1 - النّيّة‏.‏

2 - سوق البدنة والتّوجّه معها‏.‏

3 - يشترط - إن بعث بها ولم يتوجّه معها - أن يدركها قبل الميقات ويسوقها، إلاّ إذا كان بعثها لنسك متعة أو قران، وكان التّقليد في أشهر الحجّ، فإنّه يصير محرماً إذا توجّه بنيّة الإحرام وإن لم يلحقها، استحساناً‏.‏

الفصل الثّاني‏:‏ حالات الإحرام من حيث إبهام النّيّة وإطلاقها

إبهام الإحرام

تعريفه‏:‏

17 - هو أن ينوي مطلق نسك من غير تعيين، كأن يقول‏:‏ أحرمت للّه، ثمّ يلبّي، ولا يعيّن حجّاً أو عمرةً، أو يقول‏:‏ نويت الإحرام للّه تعالى، لبّيك اللّهمّ‏.‏‏.‏، أو ينوي الدّخول في حرمات نسك، ولم يعيّن شيئاً‏.‏ فهذا الإحرام صحيح باتّفاق المذاهب‏.‏ ويترتّب عليه كلّ أحكام الإحرام، وعليه اجتناب جميع محظوراته، كالإحرام المعيّن ويسمّى هذا إحراماً مبهماً، ويسمّونه أيضاً إحراماً مطلقاً‏.‏

تعيين النّسك

18 - ثمّ على هذا المحرم التّعيين قبل أن يشرع في أفعال أحدهما، وله أن يجعله للعمرة، أو للحجّ، أو لهما معاً حسبما يشاء‏.‏ وترجع الأفضليّة فيما يختاره ويعيّنه إلى خلاف المذاهب في أيّ أوجه الإحرام أفضل‏:‏ القران، أو التّمتّع، أو الإفراد، وإلى حكم الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ، إن وقع هذا الإحرام قبل أشهر الحجّ، وأراد التّعيين قبلها‏.‏ واختلفوا في كيفيّة التّعيين‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إن عيّن ما يريده قبل الطّواف فالعبرة لهذا التّعيين، وإن لم يعيّن ثمّ طاف بالبيت للعمرة، أو مطلقاً بغير تعيين ولو شوطاً، جعل إحرامه للعمرة، فيتمّ مناسك العمرة، ثمّ يحرم بالحجّ ويصير متمتّعاً‏.‏ وعلّة جعله للعمرة ‏"‏ أنّ الطّواف ركن في العمرة، وطواف القدوم في الحجّ ليس بركن، بل هو سنّة، فإيقاعه عن الرّكن أولى، وتتعيّن العمرة بفعله كما تتعيّن بقصده»‏.‏ أمّا إن لم يعيّن، ولم يطف بالبيت، بل وقف بعرفة قبل أن يطوف، فينصرف إحرامه للحجّ‏.‏ وإن لم يقصد الحجّ في وقوفه، فإنّه ينصرف إلى الحجّ شرعاً، وعليه أن يتمّم مناسك الحجّ‏.‏ هذا معتمد مذهب الحنفيّة‏.‏ ومذهب المالكيّة، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد، أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بعد التّعيين، فإن طاف قبل أن يصرف إحرامه لشيء - سواء أكان أحرم في أشهر الحجّ أم لا - وجب صرفه للحجّ مفرداً، ويكون هذا الطّواف الواقع قبل الصّرف والتّعيين طواف القدوم، وهو ليس ركناً من أركان الحجّ فلا يضرّ وقوعه قبل الصّرف‏.‏ ولا يصحّ صرف ذلك الإحرام لعمرة بعد الطّواف؛ لأنّ الطّواف ركن منها، وقد وقع قبل تعيينها‏.‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيشترطون التّعيين قبل الشّروع بأيّ عمل من المناسك‏.‏ فلو عمل شيئاً من أركان الحجّ أو العمرة قبل التّعيين، لم يجزئه، ولم يصحّ فعله‏.‏

الإحرام بإحرام الغير

19 - هو أن ينوي المحرم في إحرامه مثل ما أحرم به فلان، بأن يكون قاصداً مرافقته، أو الاقتداء به لعلمه وفضله، فيقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أهلّ أو أحرم أو أنوي مثل ما أهلّ أو نوى فلان، ويلبّي‏.‏ فهذا الإحرام صحيح، وينعقد على مثل ما أحرم به ذلك الشّخص عند الجمهور وظاهر مذهب المالكيّة‏.‏ ودليلهم حديث عليّ رضي الله عنه «أنّه قدم من اليمن ووافى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ بم أهللت‏؟‏ قال‏:‏ بما أهلّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ لولا أنّ معي الهدي لأحللت»‏.‏ زاد في رواية‏:‏ قال‏:‏ «فأهد وأمكث حراماً كما أنت»‏.‏

الاشتراط في الإحرام

20 - الاشتراط في الإحرام أن يقول عند إحرامه‏:‏ «إن حبسني حابس، فمحلّي حيث حبستني»‏.‏

21 - ذهب الشّافعيّة إلى صحّة الاشتراط، وأنّه يفيد إباحة التّحلّل من الإحرام عند وجود الحابس كالمرض، فإذا لم يشترط لم يجز له التّحلّل ثمّ إن اشترط في التّحلّل أن يكون مع الهدي وجب الهدي، وإن لم يشترط فلا هدي عليه‏.‏ على تفاصيل تجدها في بحث الإحصار‏.‏ وتوسّع الحنابلة فقالوا‏:‏ يستحبّ لمن أحرم بنسك حجّ أو عمرة أن يشترط عند إحرامه‏.‏ ويفيد هذا الشّرط عندهم شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ إذا عاقه عدوّ أو مرض أو غيرهما يجوز له التّحلّل‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّه متى أحلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم، سواء أكان المانع عدوّاً، أو مرضاً، أو غيرهما‏.‏ وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم صحّة الاشتراط، وعدم إفادته للتّحلّل عند حصول المانع له، بل يأخذ حاله حكم ذلك المانع، على ما هو مقرّر في مبحث الإحصار، استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزّبير، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّي أريد الحجّ وأنا شاكية‏؟‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ وفي المسألة تفصيل موطنه مصطلح ‏(‏إحصار‏)‏‏.‏

إضافة الإحرام إلى الإحرام

أوّلاً‏:‏ إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة‏:‏

22 - وهو أن يحرم بالعمرة أوّلاً، ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف لها، أو بعدما طاف قبل أن يتحلّل منها‏.‏ وتتنوّع صور إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة بحسب حال إضافته، وبحسب حال المحرم، وتأخذ كلّ صورة حكمها‏.‏

23 - وللحنفيّة تفصيل خاصّ في هذا، لقولهم بكراهة القران للمكّيّ، وأنّه إن فعله جاز وأساء، وعليه دم جبر لإساءته هذه‏.‏ كما أنّ للمذاهب الأخرى تفصيلاً بحسب آرائهم في مسائل من الإحرام وأوجه الإحرام‏.‏ والتّفصيل عند الحنفيّة‏:‏ أنّ المحرم إمّا أن يكون مكّيّاً أو آفاقيّاً‏.‏ وأمّا بالنّسبة لحال إضافة الإحرام بالحجّ إلى العمرة فعلى وجوه‏.‏

24 - الوجه الأوّل‏:‏ أن يدخل الحجّ على العمرة قبل أن يطوف للعمرة‏:‏ أ - إن كان آفاقيّاً صحّ ذلك، بلا كراهة، وكان قارناً، باتّفاق المذاهب‏.‏ بل هو مستحبّ، على ما صرّح به الحنفيّة، لحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك، على ما حقّقه ابن حزم وغيره، وتبعه النّوويّ وغيره‏.‏ وممّا يدلّ على جواز ذلك «حديث عائشة في حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه قولها‏:‏ وكنت ممّن أهلّ بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكّة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، فشكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهّلي بالحجّ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ وعلّل المالكيّة صحّة إرداف الحجّ على العمرة بقولهم‏:‏ «لقوّته وضعفها»‏.‏

ب - وإن كان مكّيّاً ‏(‏أو ميقاتيّاً‏)‏ فترتفض عمرته اتّفاقاً عند الحنفيّة، وعليه دم الرّفض؛ لأنّ الجمع بين النّسكين غير مشروع للمكّيّ عندهم، ‏"‏ والنّزوع عن المعصية لازم ‏"‏ ويرفض العمرة هنا؛ لأنّها أقلّ عملاً، والحجّ أكثر عملاً‏.‏ فكانت العمرة أخفّ مؤنةً من الحجّة، فكان رفضها أيسر، ولأنّ المعصية حصلت بسببها؛ لأنّها هي الّتي دخلت في وقت الحجّ، فكانت أولى بالرّفض‏.‏ ويمضي حجّته‏.‏ وعليه دم لرفض عمرته‏.‏ وعليه قضاء العمرة»‏.‏ أمّا غير الحنفيّة فحكم الآفاقيّ والمكّيّ عندهم سواء في صحّة الإحرامين وصيرورته قارناً، تبعاً لمذهبهم في تجويز القران للمكّيّ على تفصيل يأتي‏.‏ ‏(‏ف 30‏)‏ لكن شرط المالكيّة والشّافعيّة أن تكون العمرة صحيحةً‏.‏ وهذا شرط لصحّة الإرداف في جميع صوره عند المالكيّة، وعند الحنفيّة شرط لصحّة القران فقط وزاد الشّافعيّة اشتراط أن يكون إدخال الحجّ عليها في أشهر الحجّ‏.‏

25 - الوجه الثّاني‏:‏ أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن طاف شيئاً قليلاً، على ألاّ يتجاوز أقلّ أشواط طواف العمرة، أي ثلاثة أشواط فما دون ذلك‏.‏ فمذهب الحنفيّة في ذلك‏:‏ أ - إذا كان آفاقيّاً كان قارناً‏.‏

ب - وإن كان مكّيّاً ‏(‏أي ميقاتيّاً‏)‏‏:‏ وجب عليه رفض أحد النّسكين، على التّحقيق في عبارات فقهاء الحنفيّة، وإنّما اختلفوا في أيّ الرّفضين أولى‏:‏ قال أبو حنيفة‏:‏ يرفض الحجّ‏.‏ وعليه لرفضه دم‏.‏ وعليه حجّة وعمرة؛ لأنّه مثل فائت الحجّ، وحكم فائت الحجّ أنّه يتحلّل بعمرة، ثمّ يأتي بالحجّ من قابل حتّى لو حجّ في سنته سقطت العمرة؛ لأنّه حينئذ ليس في معنى فائت الحجّ، بل كالمحصر، إذا تحلّل ثمّ حجّ من تلك السّنة، فإنّه حينئذ لا تجب عليه عمرة، بخلاف ما إذا تحوّلت السّنة، فإنّه تجب عليه العمرة مع حجّته‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ رفض العمرة أحبّ إلينا، ويقضيها دون عمرة أخرى، وعليه دم للرّفض‏.‏ وكذلك هو الحكم عند أبي حنيفة لو اختار هذا المحرم رفض العمرة‏.‏ استدلّ أبو حنيفة على استحباب رفض الحجّ بأنّ ‏"‏ إحرام العمرة قد تأكّد بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحجّ لم يتأكّد، ورفض غير المتأكّد أيسر‏.‏ ولأنّ في رفض العمرة - والحالة هذه - إبطال العمل، وفي رفض الحجّ امتناع عنه ‏"‏ والامتناع أولى من الإبطال، واستدلّ الصّاحبان على أنّ رفض العمرة أولى‏:‏ «بأنّها أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً، وأيسر قضاءً، لكونها غير مؤقّتة»‏.‏ وقال المالكيّة والحنابلة‏:‏ يصحّ هذا الإرداف‏.‏ ويصير قارناً، ويتابع على ذلك‏.‏ وتندرج العمرة في الحجّ‏.‏ أمّا الشّافعيّة - وهو قول أشهب من المالكيّة - فقالوا‏:‏ يصحّ إدخال الحجّة على العمرة قبل الشّروع في الطّواف، فلو شرع في الطّواف ولو بخطوة فإنّه لا يصحّ إحرامه بالحجّ‏.‏ واستدلّوا على ذلك‏:‏ بأنّه ‏"‏ لاتّصال إحرامها بمقصوده، وهو أعظم أفعالها، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها»‏.‏ لكن الشّافعيّة قرّروا أنّه ‏"‏ لو استلم الحجر بنيّة الطّواف فالأوجه جواز الإدخال، إذ الاستلام مقدّمة الطّواف لا بعضه»‏.‏

26 - الوجه الثّالث‏:‏ أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن يطوف أكثر أشواط طواف العمرة‏.‏ فهذا حكمه عند الحنفيّة حكم ما لو أكمل الطّواف الآتي في الوجه الرّابع التّالي؛ لأنّ للأكثر حكم الكلّ عندهم‏.‏ وعند الجمهور حكمه حكم الوجه الثّاني السّابق‏.‏

27 - الوجه الرّابع‏:‏ أن يدخل الحجّ على العمرة بعد إكمال طواف العمرة قبل التّحلّل‏.‏ مذهب الحنفيّة التّفصيل المتقدّم في الوجه الثّاني‏.‏ وفصّل المالكيّة تفصيلاً آخر فقالوا‏:‏ أ - إرداف الحجّ على العمرة بعد طوافها قبل ركعتي الطّواف مكروه‏.‏ فإن فعله صحّ، ولزمه، وصار قارناً، وعليه دم القران‏.‏

ب - إرداف الحجّ على العمرة بعد أن طاف وصلّى ركعتي الطّواف قبل السّعي مكروه، ولا يصحّ، ولا يكون قارناً‏.‏ وكذلك الإرداف في السّعي، إن سعى بعض السّعي وأردف الحجّ على العمرة كره له ذلك‏.‏ فإن فعل فليمض على سعيه، فيحلّ، ثمّ يستأنف الحجّ، سواء أكان من أهل مكّة أم غيرها‏.‏ وحيث إنّ الإرداف لم يصحّ بعد الرّكوع وقبل السّعي أو في أثنائه فلا يلزم قضاء الإحرام الّذي أردفه على المشهور‏.‏

ج - إرداف الحجّ على العمرة بعد السّعي للعمرة قبل الحلق لا يجوز الإقدام عليه ابتداءً؛ لأنّه يستلزم تأخير الحلق‏.‏ فإن أقدم على إرداف الإحرام في هذا الحال فإنّ إحرامه صحيح، وهذا حجّ مستأنف‏.‏ ويحرم عليه الحلق للعمرة، لا خلاله بإحرام الحجّ، ويلزمه هدي لتأخير حلق العمرة الّذي وجب عليه بسبب إحرامه بالحجّ، ولا يكون قارناً ولا متمتّعاً، إن أتمّ عمرته قبل أشهر الحجّ، بل يكون مفرداً‏.‏ وإن فعل بعض ركنها في وقت الحجّ يكون متمتّعاً‏.‏ ولو قدّم الحلق بعد إحرامه بالحجّ وقبل فراغه من أعمال الحجّ فلا يفيده في سقوط الهدي، ولا بدّ من الهدي، وعليه حينئذ فدية أيضاً‏.‏ وهي فدية إزالة الأذى عند المالكيّة‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف، لما ذكرنا من العلّة في الصّورة السّابقة‏.‏ وبعد السّعي لا يصحّ، من باب أولى‏.‏ إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا من كان معه هدي فقالوا‏:‏ «يصحّ إدخال الحجّ على العمرة ممّن معه هدي، ولو بعد سعيها، بل يلزمه كما يأتي؛ لأنّه مضطرّ إليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏ ويصير قارناً على المذهب‏.‏ وقال في الفروع، وشرح المنتهى في موضع آخر‏:‏ لا يصير قارناً، ولو كان إدخال الحجّ على العمرة في غير أشهر الحجّ يصحّ على المذهب، لصحّة الإحرام به قبلها عند الحنابلة‏.‏

ثانياً إضافة إحرام العمرة إلى الحجّ

28 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة - في الجديد وهو الأصحّ في المذهب - والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ إحرامه بالعمرة بعدما أحرم بالحجّ‏.‏ وعلى ذلك لا يصير قارناً، ولا يلزمه دم القران، ولا قضاء العمرة الّتي أهلّ بها‏.‏ وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر، وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بكراهة هذا العمل، لكن قال الحنفيّة بصحّة الإحرام على تفصيل نذكره‏.‏

ثالثاً الإحرام بحجّتين معاً أو عمرتين معاً

29 - إن أحرم بحجّتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى‏.‏ وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة؛ لأنّهما عبادتان لا يلزمه المضيّ فيهما، فلم يصحّ الإحرام بهما‏.‏ وعلى هذا لو أفسد حجّه أو عمرته لم يلزمه إلاّ قضاؤها‏.‏ ومذهب أبي حنيفة أنّ الإحرام ينعقد بهما، وعليه قضاء إحداهما؛ لأنّه أحرم بها ولم يتمّها‏.‏ وفي الموضوع تفصيلات وفروع لا حاجة إلى إيرادها هنا لندرة وقوعها‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ حالات الإحرام

30 - ينقسم الإحرام بحسب ما يقصد المحرم أداءه به من النّسك إلى ثلاثة أقسام‏:‏ الإفراد للحجّ أو العمرة أو الجمع بين النّسكين، وهو إمّا تمتّع أو قران‏.‏ الإفراد‏:‏ هو اصطلاحاً‏:‏ أن يهلّ - أي ينوي - في إحرامه الحجّ فقط، أو العمرة فقط‏.‏ القران‏:‏ القران عند الحنفيّة‏:‏ هو أن يجمع الآفاقيّ بين الحجّ والعمرة متّصلاً أو منفصلاً قبل أكثر طواف العمرة، ولو من مكّة، ويؤدّي العمرة في أشهر الحجّ‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً، بنيّة واحدة، أو نيّتين مرتّبتين يبدأ فيهما بالعمرة، أو يحرم بالعمرة ويردف الحجّ عليها قبل طوافها أو بطوافها‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ القران أن يحرم بالعمرة والحجّ جميعاً، أو يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يدخل الحجّ عليها قبل الطّواف‏.‏ ومثل ذلك عند الحنابلة إلاّ أنّهم لم يشترطوا الإحرام في أشهر الحجّ‏.‏ التّمتّع‏:‏ التّمتّع عند الحنفيّة‏:‏ هو التّرفّق بأداء النّسكين في أشهر الحجّ في سنة واحدة، من غير إلمام بينهما بأهله إلماماً صحيحاً‏.‏ والإلمام الصّحيح‏:‏ هو الّذي يكون في حالة تحلّله من عمرته، وقبل شروعه في حجّته‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ التّمتّع هو أن يحرم بعمرة، ثمّ يحلّ منها في أشهر الحجّ، ثمّ يحجّ بعدها‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثمّ ينشئ حجّاً‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ أن يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يحرم بالحجّ من أين شاء بعد فراغه منها‏.‏

واجبات الإحرام

31 - تنحصر واجبات الإحرام في أمرين أساسيّين‏:‏ الأوّل‏:‏ كون الإحرام من الميقات‏.‏ الثّاني‏:‏ صون الإحرام عن المحظورات‏.‏ وتفصيل ذلك فيما يلي‏:‏

الفصل الرّابع‏:‏ مواقيت الإحرام

32 - الميقات‏:‏ من التّوقيت، وهو‏:‏ أن يجعل للشّيء وقت يختصّ به، ثمّ اتّسع فيه فأطلق على المكان‏.‏ ويطلق على الحدّ المحدّد للشّيء‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ عرّفوا المواقيت بأنّها‏:‏ «مواضع وأزمنة معيّنة لعبادة مخصوصة»‏.‏ ومنه يعلم أنّ للإحرام نوعين من الميقات‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ الميقات الزّمانيّ‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الميقات المكانيّ‏.‏ الميقات الزّمانيّ إمّا أن يكون ميقاتاً للإحرام بالحجّ، أو للإحرام بالعمرة‏.‏

فينقسم قسمين‏:‏

أوّلاً‏:‏ الميقات الزّمانيّ للإحرام بالحجّ‏:‏

33 - ذهب الأئمّة الثّلاثة أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم إلى أنّ وقت الإحرام بالحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة‏.‏ وهو مذهب جمهور الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم‏.‏ وذهب مالك إلى أنّ وقت الحجّ شوّال وذو القعدة وشهر ذي الحجّة إلى آخره‏.‏ وليس المراد أنّ جميع هذا الزّمن الّذي ذكروه وقت لجواز الإحرام، بل المراد أنّ بعض هذا الزّمن وقت لجواز ابتداء الإحرام، وهو من شوّال لطلوع فجر يوم النّحر، وبعضه وقت لجواز التّحلّل، وهو من فجر يوم النّحر لآخر ذي الحجّة‏.‏ وعلى هذا فالميقات الزّمانيّ بالنّسبة للإحرام متّفق عليه، إنّما مرتّب على مذهب المالكيّة جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجّة، كما سيأتي‏.‏ وهذا الّذي ذهب إليه المالكيّة ‏"‏ قد حكي أيضاً عن طاوس، ومجاهد، وعروة بن الزّبير، والرّبيع بن أنس، وقتادة»‏.‏ والأصل للفريقين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ‏}‏ فالجمهور فسّروا الآية بأنّ المراد شهران وبعض الثّالث‏.‏ واستدلّوا بالآثار عن الصّحابة‏.‏ كما يدلّ لهم أنّ أركان الحجّ تؤدّى خلال تلك الفترة‏.‏ وأمّا المالكيّة فدليلهم واضح، وهو ظاهر الآية؛ لأنّها عبّرت بالجمع ‏"‏ أشهر ‏"‏ وأقلّ الجمع ثلاث، فلا بدّ من دخول ذي الحجّة بكماله‏.‏ ثمّ اختلف الجمهور في نهار يوم النّحر هل هو من أشهر الحجّ أو لا‏.‏ فقال الحنفيّة والحنابلة‏:‏ هو من أشهر الحجّ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ آخر أشهر الحجّ ليلة يوم النّحر‏.‏ وهو مرويّ عن أبي يوسف‏.‏ وفي وجه عند الشّافعيّة في ليلة النّحر أنّها ليست من أشهر الحجّ‏.‏ والأوّل هو الصّحيح المشهور‏.‏ استدلّ الحنفيّة والحنابلة بحديث ابن عمر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر بين الجمرات في الحجّة الّتي حجّ فقال‏:‏ أيّ يوم هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ يوم النّحر‏.‏ قال‏:‏ هذا يوم الحجّ الأكبر» أخرجه أبو داود وابن ماجه‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يجوز أن يكون يوم الحجّ الأكبر ليس من أشهره‏.‏ ويشهد له حديث بعث أبي بكر أبا هريرة يؤذّن في النّاس يوم النّحر أن لا يحجّ بعد العام مشرك، فإنّه امتثال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأذان من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ والحديث متّفق عليه‏.‏ واحتجّوا بالدّليل المعقول؛ لأنّ يوم النّحر فيه ركن الحجّ، وهو طواف الزّيارة، وفيه كثير من أفعال الحجّ، منها‏:‏ رمي جمرة العقبة، والنّحر، والحلق، والطّواف، والسّعي، والرّجوع إلى منًى‏.‏ ومستبعد ‏"‏ أن يوضع لأداء ركن عبادة وقت ليس وقتها، ولا هو منه ‏"‏ واستدلّ الشّافعيّة برواية نافع عن ابن عمر أنّه قال‏:‏ «أشهر الحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة ‏"‏ أي عشر ليال‏.‏ وعن ابن مسعود وابن عبّاس وابن الزّبير مثله‏.‏ رواها كلّها البيهقيّ، وصحّح الرّواية عن ابن عبّاس‏.‏ ورواية ابن عمر صحيحة‏.‏

أحكام الميقات الزّمانيّ للحجّ

34 - أ - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ، وينعقد حجّاً، لكن مع الكراهة‏.‏ وهو قول إبراهيم النّخعيّ، وسفيان الثّوريّ، وإسحاق بن راهويه، واللّيث بن سعد‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا ينعقد الإحرام بالحجّ قبل أشهره، فلو أحرم به قبل هلال شوّال لم ينعقد حجّاً، وانعقد عمرةً على الصّحيح عندهم‏.‏ وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور‏.‏

35 - والأصل في المسألة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهر معلومات‏}‏ وقد تنازع الفريقان الاستدلال بها، وأيّد كلّ فريق وجهته بدلائل أخرى‏.‏ وهو خلاف وقع بين أهل العربيّة أيضاً‏.‏ استدلّ الثّلاثة بأنّ معنى الآية‏:‏ الحجّ ‏(‏حجّ‏)‏ أشهر معلومات، فعلى هذا التّقدير يكون الإحرام بالحجّ فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحاً؛ ولأنّه أحد نسكي القران، فجاز الإحرام به في جميع السّنة كالعمرة، أو‏:‏ أحد الميقاتين، فصحّ الإحرام قبله، كميقات المكان‏.‏ ووجّه الحنفيّة المسألة بناءً على مذهبهم بأنّه شرط عندهم، فأشبه الطّهارة في جواز التّقديم على الوقت، وثبتت الكراهة لشبهه بالرّكن‏.‏ واستدلّ الشّافعيّة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهر معلومات‏}‏‏.‏ ووجه الاستدلال أنّ ظاهره التّقدير الآخر الّذي ذهب إليه النّحاة، وهو ‏(‏وقت الحجّ أشهر معلومات‏)‏ فخصّصه بها من بين سائر شهور السّنة، فدلّ على أنّه لا يصحّ قبلها، كميقات الصّلاة‏.‏ واستدلّوا من المعقول‏:‏ بأنّ الإحرام نسك من مناسك الحجّ، فكان مؤقّتاً، كالوقوف والطّواف‏.‏

36 - اتّفقوا بعد هذا على أنّه لو فعل أيّ شيء من أفعال الحجّ قبل أشهر الحجّ لم يجزه، حتّى لو صام المتمتّع أو القارن ثلاثة أيّام قبل أشهر الحجّ لا يجوز، وكذا السّعي بين الصّفا والمروة عقب طواف القدوم لا يقع عن سعي الحجّ إلاّ فيها‏.‏

ثانياً الميقات الزّمانيّ للإحرام بالعمرة

37 - اتّفقوا على أنّ ميقات العمرة الزّمانيّ هو جميع العام، فيصحّ أن تفعل في جميع السّنة، وينعقد إحرامها، وذلك لعدم المخصّص لها بوقت دون وقت‏.‏ وكذلك قرّروا أنّها أفضل في شهر رمضان منها في غيره‏.‏ وعبّر الحنفيّة بقولهم‏:‏ «تندب في رمضان ‏"‏، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عمرة في رمضان تقضي حجّةً»‏.‏ متّفق عليه‏.‏

38 - ثمّ اختلفوا في أوقات يكره فيها الإحرام بالعمرة أو لا يكره‏.‏ وهي‏:‏ أ - يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق‏:‏ ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الكراهة فيها، لكن قال الرّمليّ الشّافعيّ‏:‏ «وهي في يوم عرفة والعيد وأيّام التّشريق ليست كفضلها في غيرها؛ لأنّ الأفضل فعل الحجّ فيها»‏.‏ واستدلّوا لعدم الكراهة بأنّ الأصل عدم الكراهة، ولا دليل عليها‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيّام بعده، حتّى يجب الدّم على من فعلها في ذلك عندهم‏.‏ واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها‏:‏ حلّت العمرة في السّنة كلّها إلاّ أربعة أيّام‏:‏ يوم عرفة، ويوم النّحر ويومان بعد ذلك أخرجه البيهقيّ»‏.‏ ولأنّ هذه الأيّام أيّام شغل بأداء الحجّ، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك، وربّما يقع الخلل فيه فتكره»‏.‏

ب - استثنى المالكيّة المحرم بالحجّ من سعة الوقت للإحرام بالعمرة، فقالوا‏:‏ الحاجّ وقت إحرامه بالعمرة من وقت تحلّله من الحجّ، وذلك ‏"‏ بالفراغ من جميع أفعاله من طواف وسعي ورمي اليوم الرّابع، أو قدر رميه لمن تعجّل فنفر في ثالث أيّام النّحر، فإنّ هذا ينتظر إلى أن يمضي - بعد الزّوال من اليوم الرّابع - ما يسع الرّمي حتّى يبدأ وقت الإحرام له للعمرة»‏.‏ وبناءً على ذلك قرّر المالكيّة‏:‏ إن أحرم بالعمرة قبل ذلك الّذي ذكرناه لم ينعقد إحرامه، وأنّه يكره الإحرام بالعمرة بعد التّحلّل بالفراغ من جميع أفعال الحجّ وقبل غروب شمس اليوم الرّابع‏.‏

الميقات المكانيّ

الميقات المكانيّ ينقسم قسمين‏:‏

ميقات مكانيّ للإحرام بالحجّ، وميقات مكانيّ للإحرام بالعمرة‏.‏

أوّلاً‏:‏ الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ‏:‏

39 - يختلف الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ باختلاف مواقع النّاس، فإنّهما في حقّ المواقيت المكانيّة على أربعة أصناف، وهي‏:‏

الصّنف الأوّل‏:‏ الآفاقيّ‏.‏

الصّنف الثّاني‏:‏ الميقاتيّ‏.‏

الصّنف الثّالث‏:‏ الحرميّ‏.‏

الصّنف الرّابع‏:‏ المكّيّ، ويشترك مع الحرميّ في أكثر من وجه، فيكونان مسألةً واحدةً‏.‏ ثمّ صنف خامس‏:‏ هو من تغيّر مكانه، ما ميقاته‏؟‏‏.‏

ميقات الآفاقيّ‏:‏ وهو من منزله خارج منطقة المواقيت‏.‏

40 - اتّفق العلماء على تقرير الأماكن الآتية مواقيت لأهل الآفاق المقابلة لها، وهذه الأماكن هي‏:‏ أ - ذو الحليفة‏:‏ ميقات أهل المدينة، ومن مرّ بها من غير أهلها‏.‏ وتسمّى الآن ‏"‏ آبار عليّ ‏"‏ فيما اشتهر لدى العامّة‏.‏

ب - الجحفة‏:‏ ميقات أهل الشّام، ومن جاء من قبلها من مصر، والمغرب‏.‏ ويحرم الحجّاج من ‏"‏ رابغ ‏"‏، وتقع قبل الجحفة، إلى جهة البحر، فالمحرم من ‏"‏ رابغ ‏"‏ محرم قبل الميقات‏.‏ وقد قيل إنّ الإحرام منها أحوط لعدم التّيقّن بمكان الجحفة‏.‏

ج - قرن المنازل‏:‏ ويقال له ‏"‏ قرن ‏"‏ أيضاً، ميقات أهل نجد، و ‏"‏ قرن ‏"‏ جبل مطلّ على عرفات‏.‏ وهو أقرب المواقيت إلى مكّة، وتسمّى الآن ‏"‏ السّيل»‏.‏

د - يلملم‏:‏ ميقات باقي أهل اليمن وتهامة، والهند‏.‏ وهو جبل من جبال تهامة، جنوب مكّة‏.‏

هـ - ذات عرق‏:‏ ميقات أهل العراق، وسائر أهل المشرق‏.‏ أدلّة تحديد مواقيت الآفاق‏:‏

41 - والدّليل على تحديدها مواقيت للإحرام السّنّة والإجماع‏:‏ أ - أمّا السّنّة فأحاديث كثيرة نذكر منها هذين الحديثين‏:‏ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال «‏:‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشّام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم‏.‏ هنّ لهنّ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ، ممّن أراد الحجّ والعمرة‏.‏ ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتّى أهل مكّة من مكّة»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ وحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشّام من الجحفة، وأهل نجد من قرن‏.‏ قال عبد اللّه - يعني ابن عمر - وبلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ويهلّ أهل اليمن من يلملم»‏.‏ متّفق عليه فهذه نصوص في المواقيت عدا ذات عرق‏.‏ وقد اختلف في دليل توقيت ذات عرق هل وقّت بالنّصّ أم بالاجتهاد والإجماع‏.‏ فقال جماعة من العلماء ومنهم الشّافعيّ ومالك ثبت باجتهاد عمر رضي الله عنه وأقرّه الصّحابة، فكان إجماعاً‏.‏ وصحّح الحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة أنّ توقيت ذات عرق منصوص عليه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ عمر رضي الله عنه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده فوافق النّصّ‏.‏

ب - وأمّا دلالة الإجماع على هذه المواقيت فقال النّوويّ في المجموع‏:‏ «قال ابن المنذر وغيره‏:‏ أجمع العلماء على هذه المواقيت»‏.‏ وقال أبو عمر بن عبد البرّ‏:‏ «أجمع أهل العلم على أنّ إحرام العراقيّ من ذات عرق إحرام من الميقات»‏.‏

أحكام تتعلّق بالمواقيت

42 - منها‏:‏ أ - وجوب الإحرام منها لمن مرّ بالميقات قاصداً أحد النّسكين، الحجّ أو العمرة، وتحريم تأخير الإحرام عنها بالإجماع‏.‏ والإحرام من أوّل الميقات، أي الطّرف الأبعد من مكّة أفضل، حتّى لا يمرّ بشيء ممّا يسمّى ميقاتاً غير محرم‏.‏ ولو أحرم من آخره أي الطّرف الأقرب إلى مكّة جاز اتّفاقاً، لحصول الاسم‏.‏

43 - ب - من مرّ بالمواقيت يريد دخول الحرم لحاجة غير النّسك اختلف فيه‏:‏ ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الإحرام لدخول مكّة أو الحرم المعظّم المحيط بها، وعليه العمرة إن لم يكن محرماً بالحجّ‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا قصد مكّة أو منطقة الحرم لحاجة لا للنّسك جاز له ألاّ يحرم‏.‏ ‏(‏انظر الأدلّة وفروع المسألة في مصطلح «حرم»‏)‏‏.‏

44 - ج - الاعتبار في هذه المواقيت بتلك المواضع، لا باسم القرية والبناء‏.‏ فلو خرب البناء في الميقات ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمّي باسم الأوّل لم يتغيّر الحكم، بل الاعتبار بموضع الأوّل‏.‏

45 - د - لا يشترط أن يحرم من هذه المواقيت بأعيانها، بل يكفي أن يحرم منها بذاتها، أو من حذوها، أي محاذاتها ومقابلتها، وذلك لما سبق في توقيت ذات عرق، أنّ عمر رضي الله عنه أخذ في توقيتها بالمحاذاة، وأقرّ على ذلك‏.‏ فدلّ على اتّفاق الصّحابة على الأخذ بقاعدة المحاذاة‏.‏

فروع تفرّع على ذلك

46 - من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معيّن، برّاً أو بحراً أو جوّاً، اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً من هذه المواقيت المذكورة‏.‏ وينبغي أن يأخذ بالاحتياط لئلاّ يجاوز الميقات غير محرم، وخصوصاً راكب الطّائرة‏.‏

47 - إن لم يعلم المحاذاة فإنّه يحرم على مرحلتين من مكّة‏.‏ اعتباراً بمسافة أقرب المواقيت، فإنّه على بعد مرحلتين من مكّة‏.‏ وعلى ذلك قرّروا أنّ جدّة تدخل في المواقيت؛ لأنّها أقرب إلى مكّة من قرن المنازل

48 - وتفرّع على ذلك مسألة من يمرّ بميقاتين، كالشّاميّ إذا قدم من المدينة، والمدنيّ، فإنّه إذا مرّ بالجحفة يمرّ بميقاتين فمن أيّ الميقاتين يحرم‏؟‏ ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأبعد، كأهل الشّام ومصر والمغرب، ميقاتهم الجحفة، فإذا مرّوا بالمدينة وجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، وإذا جاوزوه غير محرمين حتّى الجحفة كان حكمهم حكم من جاوز الميقات من غير إحرام‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين الثّاني منهما ميقاته ندب له الإحرام من الأوّل، ولا يجب عليه الإحرام منه؛ لأنّ ميقاته أمامه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين فالأفضل له الإحرام من الأوّل، ويكره له تأخيره إلى الثّاني الأقرب إلى مكّة‏.‏ ولم يقيّدوه - في الأصحّ عندهم - بأن يكون الميقات الثّاني ميقاتاً له‏.‏ استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث المواقيت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هنّ لهنّ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ»، فإنّ هذا بعمومه يدلّ على أنّ الشّاميّ مثلاً إذا أتى ذا الحليفة فهو ميقاته، يجب عليه أن يحرم منه‏.‏ ولا يجوز له أن يجاوزه غير محرم‏.‏ واستدلّ المالكيّة والحنفيّة بعموم التّوقيت لأهل المناطق المذكورة، إلى جانب العموم الّذي استدلّ به الشّافعيّة، فيحصل من ذلك له جواز الأمرين‏.‏ فأخذ الحنفيّة بالعموم على ظاهره في العبارتين، وجوّزوا الإحرام من أيّ الميقاتين، مع كراهة التّأخير، ويدلّ لهم ما ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من الفرع وهو موضع بين ذي الحليفة ومكّة‏.‏ وخصّ المالكيّة ذلك بغير المدنيّ‏.‏ ويشهد لهم فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة، فإنّهم أحرموا من ذي الحليفة‏.‏ وهو محمول عند الحنفيّة على فعل الأفضل‏.‏ ويدلّ للحنفيّة والمالكيّة من جهة النّظر‏:‏ أنّ المقصود من الميقات تعظيم الحرم المحترم، وهو يحصل بأيّ ميقات اعتبره الشّرع المكرّم، يستوي القريب والبعيد في هذا المعنى‏.‏

49 - التّقدّم بالإحرام على المواقيت المكانيّة جائز بالإجماع، وإنّما حدّدت لمنع مجاوزتها بغير إحرام‏.‏ لكن اختلف هل الأفضل التّقدّم عليها، أو الإحرام منها‏:‏ فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره له الإحرام قبل الميقات‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ تقديم الإحرام على الميقات المكانيّ أفضل، إذا أمن على نفسه مخالفة أحكام الإحرام‏.‏ استدلّ الأوّلون بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلاّ الأفضل‏.‏ وبأنّه يشبّه الإحرام بالحجّ قبل أشهره، فيكون مثله في الكراهة‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو حجّة غفر له»‏.‏ وسئل عليّ رضي الله عنه عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه‏}‏ فقال‏:‏ أن تحرم من دويرة أهلك أخرجه الحاكم وصحّحه‏.‏ واستدلّوا من حيث النّظر بأنّ ‏"‏ المشقّة فيه أكثر، والتّعظيم أوفر ‏"‏ فيكون أفضل‏.‏

50 - من جاوز الميقات قاصداً الحجّ أو العمرة أو القران، وهو غير محرم، أثم، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه‏.‏ فإن لم يرجع وجب عليه الدّم سواء ترك العود بعذر أو بغير عذر، وسواء كان عالماً عامداً أو جاهلاً أو ناسياً‏.‏ لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرّجوع‏.‏ ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت، أو المرض الشّاقّ، أو خوف فوات الرّفقة‏.‏ وذلك موضع وفاق بين المذاهب‏.‏

ميقات الميقاتيّ البستانيّ

51 - الميقاتيّ هو الّذي يسكن في مناطق المواقيت، أو ما يحاذيها، أو في مكان دونها إلى الحرم المحيط بمكّة كقديد، وعسفان، ومرّ الظّهران‏.‏ مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ميقات إحرام المكانيّ للحجّ هو موضعه، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ «يحرم من داره، أو من مسجده، ولا يؤخّر ذلك»‏.‏ والأحسن أن يحرم من أبعدهما من مكّة‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة ميقاته القرية الّتي يسكنها، إن كان قرويّاً، أو المحلّة الّتي ينزلها إن كان بدويّاً، فإن جاوز القرية وفارق العمران إلى مكّة ثمّ أحرم كان آثماً، وعليه الدّم للإساءة، فإن عاد إليها سقط الدّم، على التّفصيل الّذي سبق، وبيان المذاهب فيه‏.‏ وكذا إذا جاوز الخيام إلى جهة مكّة غير محرم، وإن كان في برّيّة منفرداً أحرم من منزله‏.‏ ويستحبّ أن يحرم من طرف القرية أو المحلّة الأبعد عن مكّة، وإن أحرم من الطّرف الأقرب جاز‏.‏ ومذهب الحنفيّة أنّ ميقاته منطقة الحلّ أي جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحلّ، ولا يلزمه كفّارة، ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام‏.‏ وإحرامه من دويرة أهله أفضل‏.‏ استدلّ الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت‏:‏ «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ»، فحمله المالكيّة على منزله، وقالوا‏:‏ إنّ المسجد واسع للإحرام ‏"‏؛ لأنّه موضع الصّلاة؛ ولأنّ أهل مكّة يأتون المسجد فيحرمون منه، وكذلك أهل ذي الحليفة يأتون مسجدهم»‏.‏ وفسّره الشّافعيّة والحنابلة بالقرية والمحلّة الّتي يسكنها؛ لأنّه أنشأ منها‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ «إنّ خارج الحرم كلّه كمكان واحد في حقّ الميقاتيّ، والحرم في حقّه كالميقات في حقّ الآفاقيّ، فلا يدخل الحرم إذا أراد الحجّ أو العمرة إلاّ محرماً»‏.‏

ميقات الحرميّ والمكّيّ

52 - أ - اتّفقت المذاهب على أنّ من كان من هذين الصّنفين، بأن كان منزله في الحرم، أو في مكّة، سواء أكان مستوطناً، أم نازلاً، فإنّه يحرم بالحجّ من حيث أنشأ، لما سبق في الحديث‏:‏ «فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّه»‏.‏

ب - ثمّ اختلفوا في تفاصيل ذلك‏.‏ فمذهب الحنفيّة أنّ من كان مكّيّاً، أو منزله في الحرم، كسكّان منًى، فوقته الحرم للحجّ وللقران‏.‏ ومن المسجد أفضل، أو من دويرة أهله، وهو قول عند الشّافعيّة بالنّسبة للمكّيّ فقط‏.‏ وهذا على سبيل الوجوب عندهم، فلو أنّه أهلّ من خارج منطقة الحرم، لزمه العود إلى الحرم، وإلاّ وجب عليه الدّم‏.‏ ودليله حديث جابر في حجّة الوداع‏:‏ «فأهللنا من الأبطح» وحديثه‏:‏ «وجعلنا مكّة بظهر أهللنا بالحجّ»‏.‏ أخرجهما مسلم، وعلّقهما البخاريّ بصيغة الجزم‏.‏ ومذهب المالكيّة التّفرقة بين من أهلّ بالحجّ ومن أهلّ بالقران، فجعلوا ميقات القران ميقات العمرة الآتي تفصيله، وهو قول عند الشّافعيّة‏.‏ وأمّا من أهلّ بالحجّ وهو من سكّان مكّة أو الحرم فإمّا أن يكون مستوطناً، أو آفاقيّاً نازلاً‏:‏ أمّا المستوطن فإنّه يندب له أن يحرم من مكّة، ومن المسجد الحرام أفضل، وإن تركها وأحرم من الحرم أو الحلّ فخلاف الأولى، ولا إثم، فلا يجب الإحرام من مكّة‏.‏ وأمّا الآفاقيّ فإن كان له سعة من الوقت - وعبّروا عنه ب ‏"‏ ذي النّفس ‏"‏ - فيندب له الخروج إلى ميقاته والإحرام منه‏.‏ وإن لم يكن له سعة من الوقت فهو كالمستوطن‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ الحرميّ ‏(‏الّذي ليس بمكّة‏)‏ حكمه حكم الميقاتيّ‏.‏ وأمّا المكّيّ‏:‏ أي المقيم بمكّة ولو كان غير مكّيّ، فعند الشّافعيّة وجهان في ميقات الحجّ له، مفرداً كان أو قارناً‏:‏ الأصحّ‏:‏ أنّ ميقاته نفس مكّة، لما سبق في الحديث‏:‏ «حتّى أهل مكّة من مكّة»‏.‏ والثّاني‏:‏ ميقاته كلّ الحرم، لاستواء مكّة، وما وراءها من الحرم في الحرمة‏.‏ وعند الحنابلة يحرم بالحجّ من مكّة من المسجد من تحت الميزاب، وهو أفضل عندهم‏.‏ وجاز وصحّ أن يحرم من بمكّة من سائر الحرم عند الحنابلة كما هو عند الحنفيّة‏.‏

الميقات المكانيّ للعمرة

53 - هو الميقات المكانيّ للحجّ بالنّسبة للآفاقيّ والميقاتيّ‏.‏ وميقات من كان بمكّة من أهلها أو غير أهلها الحلّ من أيّ مكان، ولو كان بعد الحرم، ولو بخطوة‏.‏ واختلفوا في الأفضل منهما، فذهب الجمهور إلى أنّه من الجعرانة أفضل، وذهب الحنفيّة إلى أنّه من التّنعيم أفضل‏.‏ وقال أكثر المالكيّة هما متساويان‏.‏ والأصل في ذلك حديث عائشة‏:‏ «قالت‏:‏ يا رسول اللّه أتنطلقون بعمرة وحجّة، وأنطلق بالحجّ‏؟‏ فأمر أخاها عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ في ذي الحجّة»‏.‏ ‏(‏متّفق عليه‏)‏‏.‏ ومن جهة النّظر أنّ من شأن الإحرام أن تكون هنا رحلة بين الحلّ والحرم، ولمّا كانت أركان العمرة كلّها في الحرم، كان لا بدّ أن يكون الإحرام في الحلّ‏.‏ ولا يعلم في ذلك خلاف بين العلماء‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ محظورات الإحرام

حكمة حظر بعض المباحات حال الإحرام

54 - من حكم الشّرع في ذلك تذكير المحرم بما أقدم عليه من نسك، وتربية النّفوس على التّقشّف‏.‏ وقد كان من سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المغايرة في حال العيش بين التّقشّف والتّرفّه، وتقرير المساواة بين النّاس، وإذكاء مراقبة الإنسان نفسه في خصائص أموره العادية، والتّذلّل والافتقار للّه عزّ وجلّ، واستكمال جوانب من عبادة البدن‏.‏ وقد ورد‏:‏ «إنّ اللّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته عشيّة عرفة بأهل عرفة، فيقول‏:‏ انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً»‏.‏ المحظورات من اللّباس

55 - يختلف تحريم الملبس في حقّ الرّجال عن تحريم الملبس في حقّ النّساء‏.‏

أ - محظورات الإحرام في الملبس في حقّ الرّجال‏:‏

56 - ضابط هذه المحظورات أنّه لا يحلّ للرّجل المحرم أن يستر جسمه كلّه أو بعضه أو عضواً منه بشيء من اللّباس المخيط أو المحيط، كالثّياب الّتي تنسج على هيئة الجسم قطعةً واحدةً دون خياطة، إذا لبس ذلك الثّوب، أو استعمله في اللّبس المعتاد له‏.‏ ويستر جسمه بما سوى ذلك، فيلبس رداءً يلفّه على نصفه العلويّ، وإزاراً يلفّه على باقي جسمه، أو ما أشبه ذلك‏.‏ والدّليل على حظر ما ذكرنا ما ثبت في الحديث المشهور عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما «أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما يلبس المحرم من الثّياب‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السّراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلاّ أحد لا يجد النّعلين، فليلبس الخفّين، وليقطعهما أسفل من الكعبين‏.‏ ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه الزّعفران ولا الورس» أخرجه السّتّة‏.‏ وفي رواية عن ابن عمر زيادة «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفّازين» أخرجها البخاريّ وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ‏.‏ تفصيل أحكام هذه المحظورات‏:‏ يشمل تحريم هذه الأصول المتّفق عليها أموراً كثيرةً نذكر منها ما يلي‏:‏ لبس القباء والسّراويل ونحوهما‏:‏

57 - أوّلاً‏:‏ لو وضع القباء ونحوه عليه من غير لبس أكمامه فهو محظور كاللّبس، عند المالكيّة والشّافعيّة، وهو المعتمد عند الحنابلة، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبسه للمحرم‏.‏ رواه ابن المنذر، ورواه النّجاد عن عليّ، ولأنّه عادة لبسه كالقميص‏.‏ وفصّل الحنفيّة فقالوا‏:‏ لو ألقى القباء أو العباء ونحوهما على منكبيه من غير إدخال يديه أو إحداهما في كمّيه ولم يزرّه جاز مع الكراهة، ولا فداء عليه، وهو قول الخرقيّ من الحنابلة فإن زرّه أو أدخل يديه أو إحداهما في كمّيه فهو محظور، حكمه حكم اللّبس في الجزاء‏.‏ ووجهه‏:‏ أنّ القباء لا يحيط بالبدن، فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه، إذا لم يدخل يديه كمّيه، كالقميص يتّشح به‏.‏ 58 - ثانياً‏:‏ من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به، ولا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وفصّل الحنفيّة‏:‏ فأجازوا لبس السّراويل إذا كان غير قابل لأن يشقّ ويؤتزر به، وإلاّ يفتق ما حول السّراويل ما خلا موضع التّكّة ويتّزر به‏.‏ ولو لبسه كما هو فعليه دم، إلاّ إذا كان ضيّقاً غير قابل لذلك فيكون عليه فدية يتخيّر فيها‏.‏ وعند المالكيّة قولان‏:‏ قول بجواز لبس السّراويل إذا عدم الإزار، ويفتدي، وقول‏:‏ لا يجوز ولو عدم الإزار، وهو المعتمد‏.‏

لبس الخفّين ونحوهما

59 - ثالثاً‏:‏ من لم يجد النّعلين يقطع الخفّين أسفل من الكعبين ويلبسهما، كما نصّ الحديث‏.‏ وهو قول المذاهب الثّلاثة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وهو رواية عن أحمد، وقول عروة بن الزّبير والثّوريّ وإسحاق بن راهويه وابن المنذر، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب، وعبد اللّه بن عمر، والنّخعيّ‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ وهو المعتمد في المذهب‏:‏ لا يقطع الخفّين، ويلبسهما كما هما‏.‏ وهو قول عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح، بل قال الحنابلة‏:‏ «حرم قطعهما ‏"‏ على المحرم‏.‏ استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر السّابق في محظورات الإحرام‏.‏ واستدلّ الحنابلة بحديث ابن عبّاس، وقالوا‏:‏ «إنّ زيادة القطع - أي في حديث ابن عمر - اختلف فيها، فإن صحّت فهي بالمدينة، لرواية أحمد عنه‏:‏ «سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر ‏"‏ فذكره، وخبر ابن عبّاس بعرفات، فلو كان القطع واجباً لبيّنه للجمع العظيم الّذي لم يحضر أكثرهم ذلك بالمدينة‏.‏ وقد فسّر الجمهور الكعب الّذي يقطع الخفّ أسفل منه بأنّهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم‏.‏ وفسّره الحنفيّة بالمفصل الّذي في وسط القدم عند معقد الشّراك‏.‏ ووجهه أنّه‏:‏ «لمّا كان الكعب يطلق عليه وعلى النّاتئ حمل عليه احتياطاً»‏.‏

60 - رابعاً‏:‏ ألحق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالخفّين كلّ ما ستر شيئاً من القدمين ستر إحاطة، فلم يجيزوا لبس الخفّين المقطوعين أسفل من الكعبين إلاّ عند فقد النّعلين‏.‏ ولو وجد النّعلين لم يجز له لبسهما، ووجب عليه خلعهما إن كان قد لبسهما‏.‏ وإن لبسهما لعذر كالمرض لم يأثم وعليه الفداء‏.‏ وأمّا الحنفيّة فإنّهم قالوا‏:‏ كلّ ما كان غير ساتر للكعبين، اللّذين في ظاهر القدمين فهو جائز للمحرم‏.‏

تقلّد السّلاح

61 - خامساً‏:‏ حظر المالكيّة والحنابلة على المحرم تقلّد السّيف بدون حاجة، ومثله الأسلحة المعاصرة‏.‏ وأوجب عليه المالكيّة الفداء إذا تقلّده لغير حاجة، وقالوا‏:‏ هذا إذا كانت علاقته غير عريضة، ولا متعدّدةً، وإلاّ فالفدية لازمة على كلّ حال، لكن لا يأثم في حال العذر‏.‏ وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة تقلّد السّيف مطلقاً، لم يقيّدوه بالحاجة، وكأنّهم لاحظوا أنّه ليس من اللّبس المعتاد المحظور على المحرم‏.‏

ستر الرّأس والاستظلال

62 - سادساً‏:‏ اتّفق العلماء على تحريم ستر المحرم رأسه أو بعضه، أخذاً من تحريم لبس العمائم والبرانس ثمّ اختلفوا في ضابط هذا السّتر‏.‏ فعند الحنفيّة والحنابلة يحرم ستره بما يقصد به التّغطية عادةً‏.‏ وعند المالكيّة يحرم ستر المحرم رأسه بكلّ ما يعدّ ساتراً مطلقاً‏.‏ وقريب منهم مذهب الشّافعيّة، غير أنّهم قالوا‏:‏ يحرم ما يعدّ ساتراً عرفاً، فإن لم يكن ساتراً عرفاً فيحرم إن قصد به السّتر‏.‏ يحرم ستر بعض الرّأس كذلك بما يعدّ ساتراً، أو يقصد به السّتر، على الخلاف الّذي ذكرناه‏.‏ فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة، ولا سير، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به‏.‏ وقد ضبطه المالكيّة بما يبلغ مساحة درهم فأكثر‏.‏ وجعل الحنفيّة فيما كان أقلّ من ربع الرّأس الكراهة وصدقةً بشرط الدّوام الّذي سيأتي‏.‏ واتّفقوا على جواز نحو خيط، ويحرم عند المالكيّة وضع اليد على الرّأس، لأنّها ساتر مطلقاً، وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها ستر الرّأس، وإلاّ فلا‏.‏ ولا يحرم عند الحنفيّة والحنابلة‏.‏

63 - وأمّا وضع حمل على الرّأس‏:‏ فيحرم عند الحنفيّة والحنابلة إن كان ممّا يقصد به التّغطية بحسب العادة، كما لو حمل على رأسه ثياباً، فإنّه يكون تغطيةً، وإن كان ممّا لا يقصد به تغطية الرّأس عادةً لا يحرم، كحمل طبق أو قفّة، أو طاسة قصد بها السّتر؛ لأنّها ليست ممّا يقصد به السّتر غالباً، فصار كوضع اليد‏.‏ وهذا متّفق مع الشّافعيّة، لكن عند الشّافعيّة إذا حمل ما لا يعتبر ساتراً كالقفّة وقصد به السّتر حرم ولزمه الفداء‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ يجوز للمحرم أن يحمل على رأسه ما لا بدّ منه من خرجه وجرابه، وغيره، والحال أنّه لا يجد من يحمل خرجه مثلاً لا بأجرة ولا بغيرها‏.‏ فإن حمل لغيره أو للتّجارة، فالفدية، وقال أشهب‏:‏ إلاّ أن يكون عيشه ذلك‏.‏ أي إلاّ أن يكون ما ذكر من الحمل للغير أو التّجارة لعيشه‏.‏ وهو معتمد في المذهب المالكيّ‏.‏

64 - والتّظلّل بما لا يلامس الرّأس، وهو ثابت في أصل تابع له، جائز اتّفاقاً، كسقف الخيمة، والبيت، من داخلهما، أو التّظلّل بظلّهما من الخارج، ومثل مظلّة المحمل إذا كانت ثابتةً عليه من الأصل‏.‏ وعلى ذلك يجوز ركوب السّيّارات المسقفة اتّفاقاً؛ لأنّ سقوفها من أصل صناعتها، فصارت كالبيت والخيمة‏.‏ وإن لم يكن المظلّ ثابتاً في أصل يتبعه فجائز كذلك مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وقول عند الحنابلة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز التّظلّل بما لا يثبت في المحمل‏.‏ ونحو هذا قول عند الحنابلة، واختاره الخرقيّ، وضبطه عندهم في هذا القول‏:‏ «أنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً، فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه ‏"‏ وفي التّظلّل بنحو ثوب يجعل على عصاً أو على أعواد ‏(‏مظلّة أو بشيء يرفعه على رأسه من الشّمس أو الرّيح‏)‏، أقوال ثلاثة أقربها الجواز، للحديث الآتي في دليل الجمهور‏.‏ ويجوز الاتّقاء بذلك من المطر‏.‏ وأمّا البناء والخباء ونحوهما فيجوز الاتّقاء به من الحرّ والبرد والمطر‏.‏ وأجاز التّظلّل بذلك الحنابلة، وكذا الحنفيّة والشّافعيّة، لما عرفت من أصل مذهبهم‏.‏ واستدلّوا بحديث أمّ الحصين قالت‏:‏ «حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ، حتّى رمى جمرة العقبة»‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ ولأنّ ما حلّ للحلال - كما في المغني - حلّ للمحرم إلاّ ما قام على تحريمه دليل‏.‏

ستر الوجه

65 - سابعاً‏:‏ يحظر على المحرم ستر وجهه عند الحنفيّة والمالكيّة وليس بمحظور عند الشّافعيّة والحنابلة وعزاه النّوويّ في المجموع إلى الجمهور‏.‏ استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما «أنّ رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اغسلوه بماء وسدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً» أخرجه مسلم‏.‏ وجه الاستدلال أنّه‏:‏ «أفاد أنّ للإحرام أثراً في عدم تغطية الوجه»‏.‏ واستدلّوا أيضاً من المعقول بأنّ المرأة لا تغطّي وجهها، مع أنّ في الكشف فتنةً، فالرّجل بطريق الأولى‏.‏ واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما ورد من الآثار عن بعض الصّحابة بإباحة تغطية المحرم وجهه، من فعلهم أو قولهم‏.‏ روي ذلك عن عثمان بن عفّان، وعبد الرّحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وابن الزّبير، وسعد بن أبي وقّاص، وجابر‏.‏ وروى القاسم وطاوس والثّوريّ من غير الصّحابة‏.‏ لبس القفّازين‏:‏

66 - ثامناً‏:‏ يحرم على الرّجل لبس القفّازين، باتّفاق العلماء، كما نصّ على ذلك النّوويّ، وهو كذلك في مصادر المذاهب‏.‏

ب - محظورات الإحرام من الملبس في حقّ النّساء‏:‏

ينحصر محظور الإحرام من الملبس في حقّ النّساء في أمرين فقط، هما الوجه واليدان، نفصّل بحثهما فيما يلي‏:‏ ستر الوجه‏:‏

67 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على المرأة في الإحرام ستر وجهها، لا خلاف بينهم في ذلك‏.‏ والدّليل عليه من النّقل ما سبق في الحديث‏:‏ «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفّازين»‏.‏ وضابط السّاتر هنا عند المذاهب هو كما مرّ في ستر الرّأس للرّجل‏.‏ وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرّجال جاز لها ذلك اتّفاقاً بين العلماء، إلاّ إذا خشيت الفتنة أو ظنّت فإنّه يكون واجباً‏.‏ والدّليل على هذا الاستثناء حديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كان الرّكبان يمرّون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» أخرجه أبو داود‏.‏ وعن فاطمة بنت المنذر قالت‏:‏ كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق‏.‏ أخرجه مالك والحاكم‏.‏ ومرادها من هذا ستر الوجه بغير النّقاب على معنى التّستّر‏.‏ وقد اشترط الحنفيّة والشّافعيّة - وهو قول عند الحنابلة - ألاّ يلامس السّاتر الوجه، كأن تضع على رأسها تحت السّاتر خشبةً أو شيئاً يبعد السّاتر عن ملامسة وجهها ‏"‏ لأنّه بمنزلة الاستظلال بالمحمل ‏"‏ كما في الهداية‏.‏ وأجاز لها المالكيّة أن تستر وجهها إذا قصدت السّتر عن أعين النّاس، بثوب تسدله من فوق رأسها دون ربط، ولا غرز بإبرة أو نحوها ممّا يغرز به‏.‏ ومثل ذلك عند الحنابلة، لكن عبّروا بقولهم‏:‏ «إن احتاجت إلى ستره ‏"‏؛ لأنّ العلّة في السّتر المحرّم أنّه ممّا يربط، وهذا لا يربط، كما تشير عبارة المالكيّة‏.‏

لبس القفّازين

68 - يحظر على المرأة المحرمة لبس القفّازين عند المالكيّة والحنابلة، وهو المعتمد عند الشّافعيّة‏.‏ وذهب الحنفيّة، وهو رواية عند الشّافعيّة، إلى أنّه يجوز لها اللّبس بكفّيها، كالقفّاز وغيره، ويقتصر إحرامها على وجهها فقط‏.‏ استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر بزيادة‏:‏ «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفّازين»‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بحديث ابن عمر قال‏:‏ «إحرام المرأة في وجهها»، وبما ورد من آثار عن الصّحابة‏.‏ وكان سعد بن أبي وقّاص يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات‏.‏ ورخّص فيه عليّ وعائشة‏.‏ وهو قول عطاء وسفيان والثّوريّ‏.‏ يجوز للمحرمة تغطية يدها فقط من غير شدّ، وأن تدخل يديها في أكمامها وفي قميصها‏.‏

المحرّمات المتعلّقة ببدن المحرم

69 - ضابط هذه المحظورات كلّ شيء يرجع إلى تطييب الجسم، أو إزالة الشّعث، أو قضاء التّفث‏.‏ والدّليل على تحريمها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏‏.‏ ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولا تلبسوا شيئاً من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس»‏.‏ أخرجه السّتّة‏.‏

فتحرم الأشياء الآتية‏:‏

أ - حلق الرّأس‏.‏

ب - إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم‏.‏

ج - قصّ الظّفر‏.‏

د - الأدهان‏.‏

هـ - التّطيّب‏.‏

تفصيل أحكام هذه المحظورات

حلق الرّأس‏:‏

70 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره‏.‏ وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك‏.‏ والتّقصير كالحلق في ذلك كلّه‏.‏ وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه‏.‏ وكذلك إزالة الشّعر عن الرّأس بأيّ شيء كالنّتف، والحرق، أو استعمال النّورة لإزالته‏.‏ ومثلها أيّ علاج مزيل للشّعر‏.‏ وذلك كلّه ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما‏.‏ فإذا فرغا لا يدخلان في الحظر‏.‏ ويسوغ لهما أن يحلق أحدهما للآخر، باتّفاق المذاهب على ذلك كلّه‏.‏ والدّليل هو ما سبق من نصّ الآية، وهي وإن ذكرت الحلق فإنّ غيره ممّا ذكرنا مثله في التّرفّه، فيقاس عليه، ويأخذ حكمه‏.‏ واختلفوا في حلق المحرم للحلال‏.‏ فحظره الحنفيّة‏.‏ وهو قول للمالكيّة‏.‏ وأجازه المالكيّة في قول آخر والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ استدلّ الثّلاثة بأنّ المحرم حلق شعراً لا حرمة له من حيث الإحرام، فلا يمنع، ولا جزاء عليه‏.‏ واستدلّ الحنفيّة‏:‏ بأنّ المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره، لقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏‏.‏ والإنسان لا يحلق رأس نفسه عادةً، إلاّ أنّه لمّا حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى‏.‏ وسواء كان المحلوق حلالاً أو حراماً، لما قلنا‏.‏ إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم‏:‏

71 - يحظر إزالة الشّعر وذلك قياساً على شعر الرّأس، بجامع التّرفّه في كلّ منهما‏.‏

الادّهان‏:‏

73 - الدّهن مادّة دسمة من أصل حيوانيّ أو نباتيّ‏.‏ وقد اختلفوا في الدّهن غير المطيّب‏:‏ فالجمهور - عدا الإمام أحمد - على تفصيل بينهم - ذهبوا إلى حظر استعمال الدّهن ولو كان غير مطيّب، كالزّيت، لما فيه من التّرفّه والتّزيين، وتحسين الشّعر، وذلك ينافي الشّأن الّذي يجب أن يكون عليه المحرم من الشّعث والغبار افتقاراً وتذلّلاً للّه تعالى‏.‏ وقد أوردوا في الدّهن وأشباهه الاستدلال بحديث ابن عمر، قال‏:‏ «قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من الحاجّ يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ الشّعث التّفل»‏.‏ أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه‏.‏

والشّعث‏:‏ بكسر العين الوصف، وبفتحها المصدر، ومعناه انتشار الشّعر وتغبّره لقلّة التّعهّد‏.‏ والتّفل‏:‏ من التّفل، وهو ترك الطّيب حتّى يوجد منه رائحة كريهة‏.‏ فشمل بذلك ترك الدّهن‏.‏ فقال الحنفيّة والمالكيّة يحظر على المحرم استعمال الدّهن في رأسه ولحيته وعامّة بدنه لما ذكرنا من عموم الاستدلال فيما سبق‏.‏ وقال الشّافعيّة يحظر دهن شعر الرّأس للرّجل والمرأة واللّحية وما ألحق بهما كالشّارب والعنفقة فقط، حتّى لو كان أصلع جاز دهن رأسه، أمّا إذا كانا محلوقين فيحظر دهنهما؛ لأنّه يزيّنهما إذا نبتا‏.‏ ويباح له دهن ما عدا الرّأس واللّحية وما ألحق بهما، ولا يحظر، ظاهراً كان أو باطناً، ويباح سائر شعور بدنه، ويباح له أكل الدّهن من غير أن يصيب اللّحية أو الشّارب أو العنفقة‏.‏ واستدلّوا بأنّه ليس في الدّهن طيب ولا تزيين، فلا يحرم إلاّ فيما ذكرنا؛ لأنّه به يحصل التّزيين‏.‏ وإنّ الّذي جاء به الشّرع استعمال الطّيب، وهذا ليس منه، فلا يثبت تحريمه‏.‏ وقال الحنابلة - على المعتمد عندهم من إباحته في كلّ البدن‏:‏ «إنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولا دليل فيه من نصّ ولا إجماع‏.‏ ولا يصحّ قياسه على الطّيب، فإنّ الطّيب يوجب الفدية وإن لم يزل شيئاً، ويستوي فيه الرّأس وغيره، والدّهن بخلافه»‏.‏

هـ - التّطيّب‏:‏

74 - الطّيب عند الحنفيّة‏:‏ ما له رائحة مستلذّة ويتّخذ منه الطّيب‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ ما يقصد منه رائحته غالباً، ولو مع غيره‏.‏ ويشترط في الطّيب الّذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطّيب، واتّخاذ الطّيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ ما تطيب رائحته ويتّخذ للشّمّ‏.‏ وقسّمه المالكيّة إلى قسمين‏:‏ مذكّر ومؤنّث‏.‏ فالمذكّر‏:‏ هو ما يخفى أثره أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ويظهر ريحه‏.‏ والمراد به أنواع الرّياحين‏:‏ كالرّيحان، والورد، والياسمين‏.‏ وأمّا المياه الّتي تعتصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث‏.‏ والمؤنّث‏:‏ هو ما يظهر لونه وأثره، أي تعلّقه بما مسّه مسّاً شديداً، كالمسك، والكافور، والزّعفران‏.‏ فالمؤنّث يكره شمّه، واستصحابه، ومكث في المكان الّذي هو فيه، ويحرم منه‏.‏ والمذكّر يكره شمّه، وأمّا مسّه من غير شمّ واستصحابه ومكث بمكان هو فيه فهو جائز‏.‏ تفصيل أحكام التّطيّب للمحرم‏:‏ تطييب الثّوب‏:‏

75 - وهو أصل في الباب، للتّنصيص عليه في الحديث السّابق، ومن هنا قالوا‏:‏ المحرم ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره، أو ردائه، وجميع ثيابه، وفراشه، ونعله حتّى لو علق بنعله طيب وجب أن يبادر لنزعه، ولا يضع عليه ثوباً مسّه الورس أو الزّعفران، أو نحوهما من صبغ له طيب‏.‏ كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحته، أو شدّه بطرف ثوبه، كالمسك، بخلاف شدّ عود أو صندل‏.‏ أمّا الثّوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام فلا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة لبسه‏.‏ ويجوز عند الشّافعيّة والحنابلة تطييب ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام‏.‏ ولا يضرّ بقاء الرّائحة في الثّوب بعد الإحرام، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً، قياساً للثّوب على البدن، لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه‏.‏

تطييب البدن‏:‏

76 - يحظر على المحرم استعمال الطّيب في بدنه، وعليه الفدية، ولو للتّداوي‏.‏ ولا يخضّب رأسه أو لحيته أو شيئاً من جسمه، ولا يغسله بما فيه طيب، ومنه عند الحنفيّة الخطميّ والحنّاء، على ما مرّ من الخلاف فيهما‏.‏

77 - وأكل الطّيب الخالص أو شربه لا يحلّ للمحرم اتّفاقاً بين الأئمّة‏.‏ أمّا إذا خلط الطّيب بطعام قبل الطّبخ، وطبخه معه، فلا شيء عليه، قليلاً كان أو كثيراً، عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعام مطبوخ بعد طبخه فإنّه يجوز للمحرم أكله‏.‏ أمّا إذا خلطه بطعام غير مطبوخ‏:‏ فإن كان الطّعام أكثر فلا شيء، ولا فدية إن لم توجد الرّائحة، وإن وجدت معه الرّائحة الطّيّبة يكره أكله عند الحنفيّة‏.‏ وإن كان الطّيب أكثر وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر‏.‏ وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعام خلط بطيب من غير أن يطبخ الطّيب معه فهو محظور في كلّ الصّور، وفيه الفداء‏.‏ أمّا إن خلط الطّيب بمشروب، كماء الورد وغيره، وجب فيه الجزاء، قليلاً كان الطّيب أو كثيراً، عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا خلط الطّيب بغيره من طعام أو شراب، ولم يظهر له ريح ولا طعم، فلا حرمة ولا فدية، وإلاّ فهو حرام وفيه الفدية‏.‏

شمّ الطّيب‏:‏

78 - شمّ الطّيب دون مسّ يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، ولا جزاء فيه عندهم‏.‏ أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ يحرم تعمّد شمّ الطّيب، ويجب فيه الفداء، كالمسك والكافور، ونحوهما ممّا يتطيّب بشمّه‏.‏

الصّيد وما يتعلّق به

79 - تعريف الصّيد لغةً‏:‏ الصّيد لغةً‏:‏ مصدر بمعنى، الاصطياد، والقنص، وبمعنى المصيد، وكلّ من المعنيين داخل فيما يحظر بالإحرام‏.‏ تعريف الصّيد اصطلاحاً‏:‏

80 - الصّيد عند الحنفيّة هو الحيوان البرّيّ الممتنع عن أخذه بقوائمه، أو جناحيه، المتوحّش في أصل الخلقة‏.‏ وعند المالكيّة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش في أصل الخلقة‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش المأكول اللّحم‏.‏

أدلّة تحريم الصّيد

81 - وقد ثبت تحريم الصّيد على المحرم بالكتاب والسّنّة والإجماع‏:‏ أمّا الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم‏}‏‏.‏ وقال عزّ من قائل‏:‏ ‏{‏وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏ وكلّ منهما نصّ قاطع في الموضوع‏.‏ وأمّا السّنّة فمنها حديث أبي قتادة «حين أحرم أصحابه ولم يحرم، ورأى حمار وحش‏.‏ وفي الحديث فأسرجت فرسي، وأخذت رمحي، ثمّ ركبت، فسقط منّي سوطي، فقلت لأصحابي - وكانوا محرمين - ناولوني السّوط‏.‏ فقالوا‏:‏ واللّه لا نعينك عليه بشيء، فنزلت، فتناولته ثمّ ركبت‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ فنزلوا، فأكلوا من لحمها، وقالوا‏:‏ أنأكل لحم صيد ونحن محرمون‏؟‏ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلمّا أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه إنّا كنّا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً، فنزلنا، فأكلنا من لحمها، ثمّ قلنا‏:‏ أنأكل لحم صيد ونحن محرمون،‏؟‏ فحملنا ما بقي من لحمها‏.‏ قال‏:‏ أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فكلوا ما بقي من لحمها» متّفق عليه‏.‏ وأمّا الإجماع فقد حكاه النّوويّ وابن قدامة كما ذكر ابن قدامة إجماع أهل العلم على وجوب الجزاء بقتله‏.‏

إباحة صيد البحر

82 - وأمّا صيد البحر‏:‏ فحلال للحلال وللمحرم بالنّصّ، والإجماع‏:‏ أمّا النّصّ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏ والإجماع حكاه النّوويّ وأبو بكر الجصّاص‏.‏

أحكام تحريم الصّيد على المحرم

83 - يشمل تحريم الصّيد على المحرم أموراً نصنّفها فيما يلي‏:‏ تحريم قتل الصّيد، لصريح النّصوص الواردة في ذلك‏.‏ وتحريم إيذاء الصّيد، أو الاستيلاء عليه‏.‏ ومن ذلك‏:‏ كسر قوائم الصّيد، أو كسر جناحه، أو شيّ بيضه أو كسره، أو نتف ريشه، أو جزّ شعره، أو تنفير الصّيد، أو أخذه، أو دوام إمساكه، أو التّسبّب في ذلك كلّه أو في شيء منه بدليل الآية‏:‏ ‏{‏وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏ والآية تفيد تحريم سائر أفعالنا في الصّيد في حال الإحرام»‏.‏ والدّليل من القياس‏:‏ «أنّ ما منع من إتلافه لحقّ الغير منع من إتلاف أجزائه، كالآدميّ، فإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ وللقياس على حظر تنفير صيد الحرم، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة‏:‏ «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها» فإذا حرم تنفير صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام‏.‏

84 - وتحرم المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه‏:‏ مثل الدّلالة عليه، أو الإشارة، أو إعارة سكّين، أو مناولة سوط‏.‏ وكذا يحرم الأمر بقتل الصّيد اتّفاقاً في ذلك‏.‏ والدّليل عليه حديث أبي قتادة السّابق‏.‏

تحريم تملّك الصّيد

85 - يحرم تملّك الصّيد ابتداءً، بأيّ طريق من طرق التّملّك، فلا يجوز بيعه، أو شراؤه، أو قبوله هبةً، أو وصيّةً، أو صدقةً، أو إقالةً‏.‏ والدّليل على تحريم ذلك الآية‏:‏ ‏{‏وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏ قال في فتح القدير‏:‏ «أضاف التّحريم إلى العين، فيكون ساقط التّقوّم في حقّه، كالخمر‏.‏ وأنت علمت أنّ إضافة التّحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات»‏.‏ ويستدلّ أيضاً من السّنّة بحديث الصّعب بن جثّامة «أنّه أهدى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمار وحش، فردّه عليه، فلمّا رأى ما في وجهه قال‏:‏ إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ ويستدلّ بإجماع العلماء‏.‏

تحريم الانتفاع بشيء من الصّيد

86 - يحرم على المحرم أكل لحمه، وحلبه، وأكل بيضه، وشيّه‏.‏ وذلك لعموم الأدلّة الّتي سبقت في تحريم تملّك الصّيد؛ ولأنّ الانتفاع فرع من الملك، فإذا حرّم الملك لم يبق محلّ لأثره‏.‏ 87 - إذا صاد الحلال صيداً فهل يحلّ للمحرم أكله‏؟‏ في المسألة مذاهب‏:‏ المذهب الأوّل‏:‏ لا يحلّ للمحرم الصّيد أصلاً، سواء أمر به أم لا، وسواء أعان على صيده أم لا، وسواء أصاده الحلال له أم لم يصده له‏.‏ وهذا قول طائفة من أهل العلم، منهم من الصّحابة‏:‏ عليّ وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم‏.‏ وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثّوريّ‏.‏ المذهب الثّاني‏:‏ ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله فلا يجوز للمحرم أكله، فأمّا ما لم يصده من أجل المحرم بل صاده لنفسه أو لحلال آخر فلا يحرم على المحرم أكله‏.‏ وهذا مذهب الجمهور، المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة‏.‏ وهو قول إسحاق بن راهويه، وأبي ثور‏.‏ وقال ابن عبد البرّ‏:‏ وهو الصّحيح عن عثمان في هذا الباب‏.‏ إلاّ أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ ما صيد للمحرم هو ميتة على كلّ أحد، المحرم المذبوح له وغيره، وعلى المحرم الجزاء إن علم أنّه صيد لمحرم ولو غيره، وأكل‏.‏ وإن لم يعلم وأكل منه فلا جزاء عليه‏.‏ ووافقهم الحنابلة في لزوم الجزاء، وفصّلوا فأوجبوه كاملاً إن أكله كلّه، وقسطه إن أكل بعضه، لكنّهم لم يجعلوه حراماً إلاّ على من ذبح له‏.‏ وقال الشّافعيّة - على ما هو الأصحّ الجديد في المذهب - لا جزاء في الأكل‏.‏ ولم يعمّموا الحرمة على غير من صيد له الصّيد‏.‏ المذهب الثّالث‏:‏ يحلّ للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصّيد، ما لم يأمر به، أو تكون منه إعانة عليه أو إشارة أو دلالة، وهو مذهب الحنفيّة‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ «كان عمر بن الخطّاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير يقولون‏:‏ للمحرم أكل ما صاده الحلال، وروي ذلك عن الزّبير بن العوّام، وبه قال أصحاب الرّأي»‏.‏ استدلّ أصحاب المذهب الأوّل القائلون بتحريم أكل لحم الصّيد على المحرم مطلقاً بإطلاق الكتاب والسّنّة فيما سبق‏.‏ واستدلّ الجمهور أصحاب المذهب الثّاني بأنّ ما صاده الحلال يحلّ أكله للمحرم بشرط ألاّ يكون صيد لأجله بأدلّة من السّنّة منها‏:‏ حديث أبي قتادة السّابق فقد أحلّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحرمين أكل ما صاده الحلال‏.‏ واستدلّ الجمهور أيضاً بحديث جابر رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «صيد البرّ لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصد لكم»‏.‏ أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم‏.‏ وقد تكلّم في سنده، لكن رجّح النّوويّ صحّته‏.‏ واستدلّ أصحاب المذهب الثّالث الحنفيّة ومن معهم - القائلون‏:‏ يحلّ للمحرم أن يأكل من صيد صاده الحلال، وذبحه، ما لم يكن من المحرم دلالة ولا أمر للحلال به، وإن صاده الحلال لأجل المحرم - بأدلّة كثيرة من السّنّة والآثار‏.‏ منها حديث أبي قتادة السّابق، في صيده حمار وحش وهو حلال وأكل منه الصّحابة وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه‏.‏ وجه دلالة الحديث‏:‏ «أنّهم لمّا سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحلّه لهم حتّى سألهم عن موانع الحلّ، أكانت موجودةً أم لا‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فكلوا إذن»‏.‏ فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التّفحّص عن الموانع، ليجيب بالحكم عند خلوّه منها‏.‏ وهذا المعنى كالصّريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعاً، فيعارض حديث جابر، ويقدّم عليه، لقوّة ثبوته‏.‏

صيد الحرم

88 - المراد بالحرم هنا مكّة والمنطقة المحرّمة المحيطة بها‏.‏ وللحرم أحكام خاصّة، منها تحريم صيده على الحلال كما يحرم على المحرم أيضاً، وذلك باتّفاق العلماء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ هذا البلد حرّمه اللّه، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ فقرّر العلماء من تحريم الصّيد على الحلال في الحرم أحكاماً نحو تحريم الصّيد على المحرم، وتفرّعت لذلك فروع في المذاهب لا نطيل ببسطها ‏(‏ر‏:‏ حرم‏.‏‏)‏

ما يستثنى من تحريم قتل الصّيد

89 - أ - اتّفق على جواز قتل الحيوانات التّالية في الحلّ والحرم، للمحرم وغيره، سواء ابتدأت بأذًى أو لا، ولا جزاء على من قتلها - وهي‏:‏ الغراب، والحدأة، والذّئب، والحيّة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، لما ورد من الأحاديث في إباحة قتلها‏:‏ روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح‏:‏ الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ وقد ورد ذكر الغراب في الحديث مطلقاً، ومقيّداً، ففسّروه بالغراب الأبقع الّذي يأكل الجيف‏.‏ قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري‏:‏ «اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ من ذلك، ويقال له‏:‏ غراب الزّرع»‏.‏ ا هـ‏.‏ يعني أنّه لا يدخل في إباحة قتل الصّيد، بل يحرم صيده‏.‏ إلاّ أنّ المالكيّة فصلّوا فقالوا‏:‏ يجوز قتل الفأرة والحيّة والعقرب مطلقاً، صغيرةً أو كبيرةً، بدأت بالأذيّة أم لا‏.‏ وأمّا الغراب والحدأة ففي قتل صغيرهما - وهو ما لم يصل لحدّ الإيذاء - خلاف عند المالكيّة‏:‏ قول بالجواز نظراً للفظ «غراب ‏"‏ الواقع في الحديث، فإنّه مطلق يصدق على الكبير والصّغير‏:‏ وقول بالمنع نظراً للعلّة في جواز القتل، وهي الإيذاء، وذلك منتف في الصّغير‏.‏ وعلى القول بالمنع، فلا جزاء فيه، مراعاةً للقول الآخر‏.‏ ثمّ قرّر المالكيّة شرطاً لجواز قتل ما يقبل التّذكية، كالغراب، والحدأة، والفأرة، والذّئب، وهو أن يكون قتلها بغير نيّة الذّكاة، بل لدفع شرّها، فإن قتل بقصد الذّكاة، فلا يجوز، وفيه الجزاء‏.‏

90 - ب - يجوز قتل كلّ مؤذ بطبعه ممّا لم تنصّ عليه الأحاديث، مثل الأسد، والنّمر، والفهد، وسائر السّباع‏.‏ بل صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه مستحبّ بإطلاق دون اشتراط شيء‏.‏ وكذا الحكم عندهم فيما سبق استحباب قتل تلك المؤذيات‏.‏ وأمّا المالكيّة فعندهم التّفصيل السّابق بالنّسبة للكبار والصّغار، واشتراط عدم قصد الذّكاة بقتلها‏.‏ واشترطوا في الطّير الّذي لم ينصّ عليه أن يخاف منه على نفس أو مال، ولا يندفع إلاّ بقتله‏.‏ وأمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ السّباع ونحوها كالبازي والصّقر، معلّماً وغير معلّم، صيود لا يحلّ قتلها‏.‏ إلاّ إذا صالت على المحرم، فإن صالت جاز له قتلها ولا جزاء عليه‏.‏ وفي رواية عندهم جواز قتلها مطلقاً‏.‏ استدلّ الجمهور على تعميم الحكم في كلّ مؤذ بأدلّة‏:‏ منها‏:‏ حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يقتل المحرم السّبع العادي، والكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحدأة والغراب‏.‏»‏.‏ أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه‏.‏ وقال التّرمذيّ‏:‏ هذا حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا‏:‏ «المحرم يقتل السّبع العادي»‏.‏ واستدلّوا بما ورد في الأحاديث المتّفق عليها من الأمر بقتل ‏"‏ الكلب العقور»‏.‏ قال الإمام مالك‏:‏ «إنّ كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد، والنّمر، والفهد، والذّئب، فهو الكلب العقور»‏.‏

91 - ج - ألحق الشّافعيّة والحنابلة بما يقتل في الحرم والإحرام كلّ ما لا يؤكل لحمه‏.‏

الهوامّ والحشرات

92 - د - لا تدخل الهوامّ والحشرات في تحريم الصّيد عند أصحاب المذاهب الثّلاثة‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ أمّا عند الحنفيّة‏:‏ فلأنّها ليست ممتنعةً، وقد ذكروا في تعريف الصّيد أنّه الممتنع‏.‏ وعلى ذلك فلا جزاء في قتلها عند الحنفيّة، لكن لا يحلّ عندهم قتل ما لا يؤذي، وإن لم يجب فيه الجزاء‏.‏ وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تدخل في الصّيد، لكونهم اشترطوا فيه أن يكون مأكولاً‏.‏ وهذه غير مأكولة، وقد عرفت تفصيل حكمها عندهم في المسألة السّابقة‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ يحظر قتل ما لا يؤذي من الحشرات بالإحرام والحرم، وفيه الجزاء عندهم‏.‏ لكن قالوا في الوزغ‏:‏ لا يجوز للمحرم قتله، ويجوز للحلال قتله في الحرم، ‏"‏ إذ لو تركها الحلال بالحرم لكثرت في البيوت وحصل منها الضّرر»‏.‏

الجماع ودواعيه

93 - يحرم على المحرم باتّفاق العلماء وإجماع الأمّة الجماع ودواعيه الفعليّة أو القوليّة وقضاء الشّهوة بأيّ طريق‏.‏ والجماع أشدّ المحظورات حظراً؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النّسك‏.‏ والدّليل على تحريم ذلك النّصّ القرآنيّ‏:‏ ‏{‏فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ‏}‏‏.‏ فسّر الرّفث بأنّه ما قيل عند النّساء من ذكر الجماع وقول الفحش‏.‏ وثبت ذلك عن ابن عبّاس فتكون الآية دليلاً على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النّصّ، أي من باب الأولى؛ لأنّه إذا حرم ما دون الجماع، كان تحريمه معلوماً بطريق الأولى‏.‏ وفسّر الرّفث أيضاً بذكر إتيان النّساء، الرّجال والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم‏.‏ ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التّابعين‏.‏ فتدلّ الآية على حرمة الجماع لدخوله في عمومها‏.‏ كما فسّر بالجماع أيضاً، ونسب ذلك إلى جماعة من السّلف منهم ابن عبّاس وابن عمر، فتكون الآية نصّاً فيه‏.‏

الفسوق والجدال

94 - الفسوق‏:‏ هو الخروج عن الطّاعة‏.‏ وهو حرام في كلّ حال، وفي حال الإحرام آكد وأغلظ، لذلك نصّ عليه في الكتاب الكريم‏:‏ ‏{‏ولا فسوق ولا جدال في الحجّ‏}‏‏.‏ وقد اختار جمهور المفسّرين والمحقّقون أنّ المراد به في الآية إتيان معاصي اللّه تعالى‏.‏ وهذا هو المراد والصّواب، لما هو معلوم من استعمال القرآن والسّنّة والشّرع لكلمة الفسق بمعنى الخروج عن الطّاعة‏.‏ والجدال‏:‏ المخاصمة‏.‏ وقد قال جمهور المفسّرين المتقدّمين‏:‏ أن تماري صاحبك حتّى تغضبه‏.‏ وهذا يقتضي النّهي عن كلّ مساوئ الأخلاق والمعاملات‏.‏ لكن ما يحتاج إليه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يدخل في حظر الجدال‏.‏

الفصل السّادس‏:‏ مكروهات الإحرام

95 - وهي أمور يكون فاعلها مسيئاً، لكن لا يلزمه جزاء لو فعلها‏.‏ وفي بيانها تنبيه هامّ، وإزاحة لما قد يقع من اشتباه‏.‏

96 - فمنها غسل الرّأس والجسد واللّحية بالسّدر ونحوه، عند الحنفيّة؛ لأنّه يقتل الهوامّ ويليّن الشّعر‏.‏

97 - ومشط الرّأس بقوّة، وحكّه، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً، وذلك لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّعر أو نتفه‏.‏ أمّا لو فعل ذلك برفق فإنّه مباح، لذلك قالوا‏:‏ يحكّ ببطون أنامله‏.‏ قال النّوويّ‏:‏ «وأمّا حكّ المحرم رأسه فلا أعلم خلافاً في إباحته بل هو جائز»‏.‏ 98 - والتّزيّن، صرّح بكراهته الحنفيّة وعبارات غيرهم تدلّ عليه‏.‏ قال الحنفيّة في الاكتحال بكحل غير مطيّب لقصد الزّينة إنّه مكروه، فإن اكتحل لا لقصد الزّينة بكحل غير مطيّب بل للتّداوي أو لتقوية الباصرة فمباح‏.‏ أمّا المالكيّة فالاكتحال بغير مطيّب محظور عندهم، وفيه الفداء، إلاّ لضرورة فلا فداء فيه‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والحنابلة الاكتحال بما لا طيب فيه، إن لم يكن فيه زينة، غير مكروه، كالكحل الأبيض، وإن كان فيه زينة كالإثمد فإنّه يكره، لكن لا يلزم فيه فدية‏.‏ فإن اكتحل بما فيه زينة لحاجة كالرّمد فلا كراهة‏.‏ أمّا الاكتحال بكحل مطيّب فإنّه محظور اتّفاقاً على الرّجال والنّساء‏.‏

ما يباح في الإحرام

99 - الأمور الّتي تباح في الإحرام كلّ ما ليس محظوراً ولا مكروهاً، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة‏.‏ ونذكر منها ما يلي‏:‏

100 - الاغتسال بالماء القراح، وماء الصّابون ونحوه‏.‏

101 - ولبس الخاتم جائز عند الحنفيّة أو الشّافعيّة والحنابلة للرّجال والنّساء‏.‏ ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل المحرم لبس الخاتم، وفيه الفداء‏.‏ وأمّا المرأة‏:‏ فيجوز لها لبس المحيط لسائر أعضائها، ما عدا الوجه والكفّين عند الثّلاثة، وما عدا الوجه فقط عند الحنفيّة‏.‏ وشدّ الهميان والمنطقة جائز عند الحنفيّة بإطلاق وكذا الشّافعيّة‏.‏ وقيّد المالكيّة والحنابلة إباحة شدّهما بالحاجة لنفقته‏.‏

102 - والنّظر في المرآة مباح عند الحنفيّة والشّافعيّة مطلقاً‏.‏ وعند الحنابلة جائز لحاجة لا لزينة، وأمّا المالكيّة فيكره عندهم النّظر في المرآة، خيفة أن يرى شعثاً فيزيله‏.‏

103 - والسّواك نصّ على إباحته الحنفيّة وليس هو محلّ خلاف‏.‏

104 - ونزع الظّفر المكسور مباح باتّفاق الأئمّة، وصرّح الشّافعيّة بألاّ يجاوز القسم المكسور، وهذا لا يختلف فيه‏.‏

105 - والفصد والحجامة بلا نزع شعر جائزة عند فقهاء المذاهب الأربعة‏.‏ ومثلهما الختان‏.‏ لكن تحفّظ المالكيّة بالنّسبة للفصد، فقالوا‏:‏ يجوز الفصد لحاجة إن لم يعصب العضو المفصود، وإن لم يكن له حاجة للفصد فهو مكروه، وإن عصبه ففيه الفدية‏.‏

106 - والارتداء والاتّزار بمخيط أو محيط أي أن يجعل الثّوب المخيط أو المحيط رداءً أو إزاراً، دون لبس‏.‏ وكذا إلقاؤه على جسمه كلّ ذلك مباح عندهم جميعاً‏.‏

107 - وذبح الإبل والبقر والحيوانات الأهليّة مباح وذلك لأنّها لا تدخل في تحريم الصّيد ولا محرّمات الإحرام باتّفاقهم‏.‏

الفصل السّابع‏:‏ في سنن الإحرام

وهي أمور يثاب فاعلها، ويكون تاركها مسيئاً ولا يلزمه بالتّرك شيء‏.‏

وجملة ذلك أربعة‏:‏

أوّلاً الاغتسال

108 - وهو سنّة عند الأئمّة الأربعة لما ورد فيه من الأحاديث، كحديث زيد بن ثابت‏:‏ «أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله واغتسل»‏.‏ أخرجه التّرمذيّ وحسّنه‏.‏ وقد اتّفقوا على أنّ هذا الغسل سنّة لكلّ محرم صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، ويطلب أيضاً من المرأة الحائض والنّفساء في حال الحيض والنّفاس‏.‏ فعن ابن عبّاس مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ النّفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلّها، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر» أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه واللّفظ للتّرمذيّ‏.‏ ووقت هذا الاغتسال موسّع عند الحنفيّة في الأظهر من مذهبهم‏.‏ وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة‏.‏ وثمرة الخلاف أنّه لو اغتسل ثمّ أحدث ثمّ توضّأ ينال فضيلة السّنّة، ولا يضرّه ذلك‏.‏ وألحق الشّافعيّة هذا الغسل بغسل الجمعة، فدلّ على أنّه موسّع، كما هو حكم غسل الجمعة‏.‏ أمّا المالكيّة فقيّدوا سنّيّة الغسل بأن يكون متّصلاً بالإحرام‏.‏

ثانياً التّطيّب

109 - وهو من محظورات الإحرام، لكنّه سنّ استعداداً للإحرام، عند الجمهور، وكرهه مالك‏.‏ التّطيّب في البدن‏:‏

110 - ودليل سنّيّته ما روت عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت‏:‏ «كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام، لتصريح حديث عائشة الثّاني‏.‏ وأمّا المالكيّة فحظروا بقاء جرم الطّيب ولم يجوّزوا بقاء رائحته‏.‏ التّطيّب في ثوب الإحرام‏:‏

111 - أمّا تطييب الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور وأجازه الشّافعيّ في القول المعتمد‏.‏ فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب بعد الإحرام، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً، قياساً للثّوب على البدن‏.‏ لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام‏.‏ أو سقط عنه‏.‏ فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّطيّب في الثّوب للإحرام، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّباً لأنّه بذلك يكون مستعملاً للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب، وهو محظور على المحرم‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب إزالته، سواء في ذلك بدنه أو ثوبه، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب الّذي تطيّب به قبل الإحرام فإنّ الفدية تكون واجبةً، وأمّا إن كان الباقي في الثّوب رائحته، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته، ولا فدية‏.‏ وأمّا اللّون ففيه قولان عند المالكيّة‏.‏ وهذا كلّه في الأثر اليسير، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية‏.‏ استدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة قال‏:‏ «أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة، فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة بعدما تضمّخ بطيب‏؟‏ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات، وأمّا الجبّة فانزعها، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك»‏.‏ متّفق عليه‏.‏ فاستدلالهم بهذا الحديث لحظر الطّيب في الإحرام في البدن والثّوب‏.‏

ثالثاً صلاة الإحرام

112 - يسنّ للمحرم أن يصلّي ركعتين قبل الإحرام باتّفاق الأئمّة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين»‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ ولا يصلّيهما في الوقت المكروه، اتّفاقاً بين الأئمّة، إلاّ من أحرم بالحرم عند الشّافعيّة، فإنّه يصلّيهما ولو في الوقت المكروه عندهم‏.‏ وتجزئ الصّلاة المكتوبة عن سنّة الإحرام اتّفاقاً كذلك، كما في تحيّة المسجد‏.‏

رابعاً التّلبية

113 - التّلبية سنّة في الإحرام متّفق على سنّيّتها إجمالاً، فيما عدا الخلاف في حكم قرنها بالنّيّة هل هي فرض في الإحرام مع النّيّة، أو واجب أو سنّة‏؟‏ ‏(‏ف‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فاتّفقوا فيما عدا ذلك على سنّيّتها للمحرم، وعلى استحباب الإكثار منها، وسنّيّة رفع الصّوت بها‏.‏ 114 - والأفضل أن يلبّي عقب صلاة الإحرام ناوياً الحجّ أو العمرة، على ما قاله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏ وهو قول عند الشّافعيّة، وفي قول - وهو الأصحّ - يلبّي إذا ركب‏.‏ ولا خلاف في جواز ذلك كلّه لورود الرّواية به‏.‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنّه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته قائمةً» متّفق عليه‏.‏ 115 - وأمّا انتهاء التّلبية‏:‏ فهو للحاجّ ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، ويقطعها عند الطّواف والسّعي للاشتغال بالأذكار والأدعية الواردة فيها‏.‏ وأمّا المالكيّة فعندهم قولان‏:‏ الأوّل‏:‏ يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة، فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى، ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاّها‏.‏ الثّاني‏:‏ يستمرّ في التّلبية حتّى الابتداء بالطّواف والشّروع فيه‏.‏

116 - وأمّا تلبية إحرام العمرة فالجمهور أنّها تنتهي ببدء الطّواف باستلام الرّكن‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى الحرم، لا إلى رؤية بيوت مكّة، والمعتمر من الجعرانة والتّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة، لقرب المسافة‏.‏ يدلّ للجمهور حديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر»‏.‏ أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحّحه‏.‏ واستدلّ مالك بما رواه عن نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال‏:‏ وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم‏.‏

كيفيّة الإحرام المستحبّة

117 - من أراد أن يحرم بحجّ أو عمرة أو بهما معاً يستحبّ له إزالة التّفث عن جسمه، وأن يتزيّن على الصّورة المألوفة الّتي لا تتنافى مع الشّريعة وآدابها، وأن يغتسل بنيّة الإحرام، وإذا كان جنباً فيكفيه غسل واحد بنيّة إزالة الجنابة والإحرام، وأن يتطيّب‏.‏ والأولى أن يتطيّب بطيب لا يبقى جرمه، على التّفصيل والخلاف السّابق، ثمّ يلبس ثوبين نظيفين جديدين أو غسيلين، على ألاّ يكونا مصبوغين بصبغ له رائحة‏.‏ وأمّا المرأة فتلبس ما يستر عورتها إلاّ وجهها وكفّيها‏.‏ ثمّ يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام‏.‏ فإذا أتمّهما نوى بقلبه وقال بلسانه‏:‏ اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي، وتقبّله منّي‏.‏ ثمّ يلبّي‏.‏ وإذا كان يريد العمرة فيقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أريد العمرة، فيسّرها لي، وتقبّلها منّي‏.‏ ثمّ يلبّي‏.‏ وإذا كان قارناً فيستحبّ أن يقدّم ذكر العمرة على ذكر الحجّ حتّى لا يشتبه أنّه أدخل العمرة على الحجّ‏.‏ ويقول‏:‏ اللّهمّ إنّي أريد الحجّ والعمرة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، ويلبّي‏.‏ فيصير بذلك محرماً، وتجري عليه‏.‏ أحكام الإحرام الّتي تقدّم بيانها‏.‏ وإذا كان يؤدّي الحجّ والعمرة عن غيره فلا بدّ أن يعيّن ذلك بقلبه ولسانه‏.‏ ويسنّ له الإكثار من التّلبية‏.‏ وأفضل صيغها الصّيغة المأثورة‏:‏ «لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك»‏.‏ ويستحبّ ألاّ ينقص منها‏.‏ قال الطّحاويّ والقرطبيّ‏:‏ «أجمع العلماء على هذه التّلبية»‏.‏ وأمّا الزّيادة على التّلبية، فإن كانت من المأثور فمستحبّ‏.‏ وما ليس مرويّاً فجائز أو حسن، على تفصيل يذكر في موضع آخر ‏(‏ر‏:‏ تلبية‏)‏

موجب الإحرام

118 - إذا أحرم شخص بنسك وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً في الأصل‏.‏ ويلزمه جميع ما يجب على المحرم فعله‏.‏ ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بعد أداء هذا النّسك، على التّفصيل المتقدّم‏.‏ ويتّصل بهذا بيان أحكام ما يبطل الحجّ وما يفسده وما يمنع المضيّ فيه‏.‏

119 - أمّا ما يبطله فهو الرّدّة، فإذا ارتدّ بطل نسكه ولا يمضي فيه‏.‏

120 - أمّا ما يفسد النّسك فهو الجماع، وعليه أن يمضي في نسكه ثمّ القضاء من قابل إن كان حجّاً على ما يأتي بيانه‏.‏ وإن كان عمرةً فعليه أن يمضي أيضاً فيها ثمّ يقضيها ولو في عامه على التّفصيل‏.‏

121 - أمّا ما يمنع الاستمرار في النّسك، وهو الإحصار والفوات، فإنّ

أحكام ذلك ترد في موضع آخر ‏(‏ر‏:‏ إحصار‏.‏ فوات‏)‏‏.‏

الفصل الثّامن‏:‏ التّحلّل من الإحرام

المراد بالتّحلّل هنا الخروج من الإحرام وحلّ ما كان محظوراً عليه وهو محرم‏.‏

وهو قسمان‏:‏ تحلّل أصغر، وتحلّل أكبر‏.‏

التّحلّل الأصغر

122 - يكون التّحلّل الأصغر بفعل أمرين من ثلاثة‏:‏ رمي جمرة العقبة، والنّحر، والحلق أو التّقصير‏.‏ ويحلّ بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء بالإجماع، والطّيب عند البعض، والصّيد عند المالكيّة‏.‏ والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن السّيّدة «عائشة رضي الله عنها أنّها ضمّخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة»‏.‏ وقد جاء في بعض الأحاديث‏:‏ أنّه «إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب»، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة، وعلّمهم أمر الحجّ، وقال لهم فيما قال‏:‏ إذا جئتم فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب‏.‏ وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد كذلك فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم‏}‏ ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة‏.‏

التّحلّل الأكبر

123 - هو التّحلّل الّذي تحلّ به جميع محظورات الإحرام دون استثناء‏.‏ ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر، وعند الشّافعيّة والحنابلة من منتصف ليلة النّحر، وذلك تابع لاختلافهم فيما يحصل به التّحلّل الأكبر‏.‏ أمّا نهاية وقته فبحسب ما يتحلّل به، فهو لا ينتهي إلاّ بفعل ما يتحلّل به عند الحنفيّة والمالكيّة؛ لأنّه لا يفوت، كما ستعلم، وهو الطّواف‏.‏ وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فكذلك إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق، أو السّعي‏.‏ أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق، فإذا توقّف عليه التّحلّل، ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق، فات وقت الرّمي بالكلّيّة، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك‏.‏ وهذا قول عند الشّافعيّة، لكن الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها‏.‏

ما يحصل به التّحلّل الأكبر

124 - يحصل التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة والمالكيّة بطواف الإفاضة، بشرط الحلق هنا باتّفاق الطّرفين‏.‏ فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند المذهبين‏.‏ زاد المالكيّة‏:‏ أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ لا مدخل للسّعي في التّحلّل؛ لأنّه واجب مستقلّ‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة يحصل التّحلّل الأكبر باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرناها‏:‏ ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك‏.‏ وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة‏:‏ رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي، محلّ اتّفاق العلماء، وبه تحلّ جميع محظورات الإحرام بالإجماع‏.‏

125 - ثمّ إذا حصل التّحلّل الأكبر في اليوم الأوّل لجوازه مثلاً فلا يعني انتهاء كلّ أعمال الحجّ، بل يجب عليه الإتيان بها، وإن كان حلالاً، وقد ضربوا لهذا مثلاً لطيفاً يبيّن حسن موقع هذه الأعمال بعد التّحلّلين، نحو قول الرّمليّ‏:‏ «ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحجّ، وهو الرّمي والمبيت، مع أنّه غير محرم، كما يخرج بالتّسليمة الأولى من صلاته، ويطلب منه الثّانية‏.‏ ‏"‏

التّحلّل من إحرام العمرة

126 - اتّفقوا على أنّ للعمرة تحلّلاً واحداً يحلّ به للمحرم جميع محظورات الإحرام‏.‏ ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب على اختلافهم في حكمه في مناسك العمرة‏.‏

ما يرفع الإحرام

127 - يرفع الإحرام، بتحويله عمّا نواه المحرم، أمران‏:‏

1 - فسخ الإحرام‏.‏

2 - رفض الإحرام‏.‏

ذهب الحنابلة خلافاً للجمهور إلى أنّ من كان مفرداً أو قارناً ‏(‏إذا لم يكن قد ساق الهدي‏)‏ يستحبّ له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيّته بالحجّ، وينوي عمرةً مفردةً، ثمّ يهلّ بالحجّ‏.‏ وهذا مبنيّ عندهم على أفضليّة التّمتّع‏.‏ واستدلّ الحنابلة بما روى ابن عمر «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكّة قال للنّاس‏:‏ من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة، وليقصّر، وليحلل، ثمّ ليهلّ بالحجّ، وليهد»‏.‏ أخرجه البخاريّ ومسلم‏.‏ واستدلّ الجمهور على منع فسخ الحجّ بأدلّة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه‏}‏ فقد أمر اللّه تعالى بإكمال أفعال الحجّ وأفعال العمرة لمن شرع في أيّ منهما، والفسخ ضدّ الإتمام، فلا يكون مشروعاً، ومنها الأحاديث الّتي شرع بها الإفراد والقران، وقد سبق ذكرها‏.‏

رفض الإحرام

128 - رفض الإحرام‏:‏ هو ترك المضيّ في النّسك بزعم التّحلّل منه قبل إتمامه‏.‏ ورفض الإحرام لغو باتّفاق العلماء، ولا يبطل به الإحرام، ولا يخرج به عن أحكامه‏.‏

ما يبطل الإحرام

129 - يبطل الإحرام بأمر واحد فقط، متّفق عليه بين الجميع‏:‏ هو الرّدّة عن الإسلام، عياذاً باللّه تعالى وذلك لأنّهم اتّفقوا على كون الإسلام شرطاً لصحّة النّسك‏.‏ ويتفرّع على بطلان الإحرام أنّه لا يمضي في متابعة أعمال ما أحرم به، خلافاً للفاسد‏.‏ وأمّا إذا أسلم وتاب عن ردّته فلا يمضي أيضاً؛ لبطلان إحرامه‏.‏

الفصل التّاسع‏:‏ أحكام خاصّة في الإحرام

130 - وهي أحكام مستثناة من عموم أحكام الإحرام العامّة، بسبب وضع خاصّ لبعض الأشخاص، أو بسبب طروء بعض الطّوارئ، كما في السّرد التّالي‏:‏ أ - إحرام المرأة‏.‏

ب - إحرام الصّبيّ‏.‏

ج - إحرام العبد والأمة‏.‏

د - إحرام المغمى عليه‏.‏

هـ - نسيان ما أحرم به‏.‏ وقد تقدّم بعض ذلك، وندرس ما بقي منها، كلّاً منها وحده‏.‏ إحرام الصّبيّ مشروعيّة حجّ الصّبيّ وصحّة إحرامه‏:‏

131 - اتّفق العلماء على صحّة حجّ الصّبيّ، وعمرته، وأنّ ما يؤدّيه من عبادة أو من حجّ أو من عمرة يكون تطوّعاً، فإذا بلغ وجب عليه حجّة فرض الإسلام‏.‏ وإذا كان أداء الصّبيّ للنّسك صحيحاً كان إحرامه صحيحاً قطعاً‏.‏ صفة إحرام الصّبيّ‏:‏

132 - ينقسم الصّبيّ بالنّسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين‏:‏ صبيّ مميّز، وصبيّ غير مميّز‏.‏ وضابط المميّز‏:‏ هو الّذي يفهم الخطاب ويردّ الجواب، دون اعتبار للسّنّ‏.‏ 133 - أمّا الصّبيّ المميّز‏:‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة ينعقد إحرامه بنفسه، ولا تصحّ النّيابة عنه في الإحرام، لعدم جواز النّيابة عند عدم الضّرورة‏.‏ ولا تتوقّف صحّة إحرامه على إذن الوليّ، بل يصحّ إحرامه بإذن الوليّ، وبغير إذن الوليّ، لكن إذا أحرم بغير إذن الوليّ فقد صرّح المالكيّة أنّ للوليّ تحليله، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة‏.‏ فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد بلوغه‏.‏ فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله، أمّا إذا أراد الوليّ الرّجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطّاب‏:‏ «الظّاهر أنّ له الرّجوع، لا سيّما إذا كان لمصلحته»‏.‏ ولم يصرّح بذلك الحنفيّة‏.‏ ولعلّه يدخل في الإحصار بمنع السّلطان عندهم‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينعقد إحرامه إلاّ بإذن وليّه، بل قال الشّافعيّة‏:‏ يصحّ إحرام وليّه عنه، على الأصحّ عندهم في المسألتين‏.‏ أمّا عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليّه لعدم الدّليل‏.‏ ويفعل الصّبيّ الصّغير المميّز كلّ ما يستطيع أن يفعله بنفسه، فإن قدر على الطّواف علّمه فطاف، وإلاّ طيف به، وكذلك السّعي وسائر المناسك‏.‏ ولا تجوز النّيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه، وكلّ ما لا يقدر الصّبيّ على أدائه ينوب عنه وليّه في أدائه‏.‏

134 - وأمّا الصّبيّ غير المميّز - ومثله المجنون جنوناً مطبقاً - فيحرم عنه وليّه، بأن يقول‏:‏ نويت إدخال هذا الصّبيّ في حرمات الحجّ، مثلاً‏.‏ وليس المراد أنّ الوليّ يحرم في نفسه ويقصد النّيابة عن الصّبيّ‏.‏ ولا ينعقد إحرام الصّبيّ غير المميّز بنفسه اتّفاقاً‏.‏ 135 - ويؤدّي الوليّ بالصّبيّ غير المميّز المناسك، فيجرّده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً، ويكشف وجه الأنثى وكفّيها كالكبيرة على ما سبق فيه ويطوف به ويسعى، ويقف به بعرفة والمزدلفة، ويرمي عنه، ويجنّبه محظورات الإحرام، وهكذا‏.‏ لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما الوليّ عنه، وهو ظاهر كلام الحنابلة‏.‏ إلاّ أنّ المالكيّة خفّفوا في الإحرام والتّجرّد من الثّياب، فقالوا‏:‏ «يحرم الوليّ بالصّغير غير المميّز، ويجرّده من ثيابه قرب مكّة، لخوف المشقّة وحصول الضّرر‏.‏ فإن كانت المشقّة أو الضّرر يتحقّق بتجريده قرب مكّة أحرم بغير تجريده، كما هو الظّاهر من كلامهم - ويفدي»‏.‏

بلوغ الصّبيّ في أثناء النّسك

136 - إن بلغ الصّبيّ الحلم بعدما أحرم، فمضى في نسكه على إحرامه الأوّل، لم يجزه حجّه عن فرض الإسلام عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ لو جدّد الصّبيّ الإحرام قبل الوقوف بعرفة، ونوى حجّة الإسلام، جاز عن حجّة الإسلام؛ لأنّ إحرام الصّبيّ غير لازم لعدم أهليّته للّزوم عليه‏.‏ وقال المالكيّة لا يرتفض إحرامه السّابق، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض، لأنّه اختلّ شرط الوقوع فرضاً، وهو ثبوت الحرّيّة والتّكليف، وقت الإحرام‏.‏ وهذا لم يكن مكلّفاً وقت الإحرام، فلا يقع نسكه هذا إلاّ نفلاً‏.‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا‏:‏ إن بلغ الصّبيّ في أثناء الحجّ ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف، أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ، فهذا لا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام‏.‏ الثّاني‏:‏ أن يبلغ في حال الوقوف، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف، أي قبل طلوع فجر يوم النّحر، فهذا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام‏.‏ لكن يجب عليه إعادة السّعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ، ولا دم عليه‏.‏ أمّا في العمرة‏:‏ فالطّواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحجّ، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام، عند من يقول بوجوبها‏.‏

إحرام المغمى عليه

137 - للمغمى عليه حالان‏:‏ أن يغمى عليه قبل الإحرام، أو يغمى عليه بعد الإحرام‏.‏

أوّلاً‏:‏ من أغمي عليه قبل الإحرام‏:‏

138 - في المذاهب الثّلاثة المالكيّ والشّافعيّ والحنبليّ‏:‏ لا إحرام له، ولا يحرم عنه أحد من رفقته ولا غيرهم، سواء أمرهم بذلك قبل أن يغمى عليه أو لم يأمرهم، ولو خيف فوات الحجّ عليه؛ لأنّ الإغماء مظنّة عدم الطّول، ويرجى زواله عن قرب غالباً‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى جواز الإحرام عن المغمى عليه، على تفصيل بين الإمام وصاحبيه‏:‏

أ - من توجّه إلى البيت الحرام يريد الحجّ فأغمي عليه قبل الإحرام، أو نام وهو مريض فنوى عنه ولبّى أحد رفقته، وكذا من غير رفقته وكان قد أمرهم بالإحرام عنه قبل الإغماء، صحّ الإحرام عنه، ويصير المغمى عليه محرماً بنيّة رفيقه وتلبيته عنه اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة‏.‏ ويجزيه عن حجّة الإسلام‏.‏

ب - إن أحرم عنه بعض رفقته أو غيرهم بلا أمر سابق على الإغماء صحّ كذلك عند الإمام أبي حنيفة، ولم يصحّ عند صاحبيه أبي يوسف ومحمّد‏.‏

فروع

139 - أ - إن أفاق المغمى عليه بعدما أحرم عنه غيره، فهو عند الحنفيّة محرم يتابع النّسك‏.‏ وعند غيرهم لا عبرة بإحرام غيره عنه، فإن كان بحيث يدرك الوقوف بعرفة أحرم بالحجّ، وأدّى المناسك، وإلاّ فإنّه يحرم بعمرة‏.‏ ولا ينطبق عليه حكم الفوات عند الثّلاثة؛ لأنّه لم يكن محرماً‏.‏

140 - ب - لا يجب على من أحرم عن المغمى عليه تجريده من المخيط وإلباسه غير المخيط لصحّة الإحرام؛ لأنّ ذلك ليس هو الإحرام، بل كفّ عن بعض محظورات الإحرام‏.‏ حتّى إذا أفاق وجب عليه أفعال النّسك، والكفّ عن المحظورات‏.‏

141 - ج - لو ارتكب المغمى عليه الّذي أحرم عنه غيره محظوراً من محرّمات الإحرام لزمه موجبه، أي كفّارته، وإن كان غير قاصد للمحظور‏.‏ ولا يلزم الرّفيق الّذي أحرم عنه؛ لأنّ هذا الرّفيق أحرم عن نفسه بطريق الأصالة، وعن المغمى عليه بطريق النّيابة، كالوليّ يحرم عن الصّغير‏.‏ فينتقل إحرامه إليه، فيصير محرماً كما لو نوى هو ولبّى، ولذا لو ارتكب هو أيضاً - أي الوليّ - محظوراً لزمه جزاء واحد لإحرام نفسه، ولا شيء عليه من جهة إهلاله عن غيره عند الحنفيّة كما سبق‏.‏

142 - د - إذا لم يفق المغمى عليه فهل يشهد به رفقته المشاهد، على أساس الإحرام عنه الّذي قال به الحنفيّة‏؟‏ هناك قولان عند الحنفيّة‏:‏ قيل‏:‏ لا يجب على الرّفقاء أن يشهدوا به المشاهد، كالطّواف والوقوف والرّمي والوقوف بمزدلفة، بل مباشرتهم عنه تجزيه، لكن إحضاره أولى، على ما صرّح به بعض أصحاب هذا القول‏.‏ وهذا الأصحّ على ما أفاد في ردّ المحتار المعتمد في الفتوى في مذهب الحنفيّة، لكن لا بدّ للإجزاء عنه من نيّة الوقوف عنه، والطّواف عنه بعد طواف النّائب عن نفسه، وهكذا‏.‏

ثانياً من أغمي عليه بعد إحرامه بنفسه

143 - الإغماء بعد الإحرام لا يؤثّر في صحّته، باتّفاق الأئمّة‏.‏ وعلى ذلك فهذا حمله متعيّن على رفقائه، ولا سيّما للوقوف بعرفة، فإنّه يصحّ ولو كان نائماً أو مغمًى عليه، على تفصيل في أداء المناسك له يطلب في موضعه من مصطلح «حجّ ‏"‏ ومصطلح «عمرة»‏.‏

نسيان ما أحرم به

144 - من أحرم بشيء معيّن، مثل حجّ، أو عمرة، أو قران، ثمّ نسي ما أحرم به، لزمه حجّ وعمرة‏.‏ ويعمل عمل القران في المذاهب الثّلاثة‏:‏ الحنفيّ والمالكيّ والشّافعيّ‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّه يصرف إحرامه إلى أيّ نسك شاء، ويندب صرفه إلى العمرة خاصّةً‏.‏

الفصل العاشر‏:‏ في كفّارات محظورات الإحرام

تعريفها‏:‏

145 - المراد بالكفّارة هنا‏:‏ الجزاء الّذي يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام‏.‏ وهذه الأجزية أنواع‏:‏

1 - الفدية‏:‏ حيث أطلقت فالمراد الفدية المخيّرة الّتي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏‏.‏

2 - الهدي‏:‏ وربّما عبّر عنه بالدّم‏.‏ وكلّ موضع أطلق فيه الدّم أو الهدي تجزئ فيه الشّاة، إلاّ من جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ‏(‏أي من الإبل‏)‏ اتّفاقاً‏.‏ أمّا من جامع قبل الوقوف فإنّه يفسد حجّه اتّفاقاً وعليه بدنة عند الثّلاثة، وقال الحنفيّة‏:‏ عليه شاة، ويمضي في حجّه، ويقضيه‏.‏

3 - الصّدقة‏:‏ حيث أطلق وجوب ‏"‏ صدقة ‏"‏ عند الحنفيّة من غير بيان مقدارها فإنّه يجب نصف صاع من برّ ‏(‏قمح‏)‏ أو صاع من شعير أو تمر‏.‏

4 - الصّيام‏:‏ يجب الصّيام على التّخيير في الفدية، وهو ثلاثة أيّام‏.‏ ويجب في مقابلة الإطعام‏.‏

5 - الضّمان بالمثل‏:‏ في جزاء الصّيد، على ما سيأتي‏.‏

146 - يستوي إحرام العمرة مع إحرام الحجّ في عقوبة الجناية عليه‏.‏ إلاّ من جامع في العمرة قبل أداء ركنها، فتفسد اتّفاقاً كما ذكرنا، وعليه شاة عند الحنفيّة والحنابلة، وقال الشّافعيّة والمالكيّة‏:‏ عليه بدنة‏.‏

المبحث الأوّل‏:‏ في كفّارة محظورات التّرفّه‏.‏

147 - يتناول هذا البحث كفّارة محظورات اللّبس، وتغطية الرّأس، والادّهان، والتّطيّب، وحلق الشّعر أو إزالته أو قطعة من الرّأس أو غيره، وقلم الظّفر‏.‏ أصل كفّارة محظورات التّرفّه‏.‏

148 - اتّفقوا على أنّ من فعل من المحظورات شيئاً لعذر مرض أو دفع أذًى فإنّ عليه الفدية، يتخيّر فيها‏:‏ إمّا أن يذبح هدياً، أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيّام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏‏.‏ ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له حين رأى هوامّ رأسه‏:‏ «أيؤذيك هوامّ رأسك‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فاحلق، وصم ثلاثة أيّام، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك نسيكةً» متّفق عليه‏.‏ 149 - وأمّا العامد الّذي لا عذر له فقد اختلفوا فيه‏:‏ فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتخيّر، كالمعذور، وعليه إثم ما فعله‏.‏ واستدلّوا بالآية‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ العامد لا يتخيّر، بل يجب عليه الدّم عيناً أو الصّدقة عيناً، حسب جنايته‏.‏ واستدلّوا على ذلك بالأدلّة السّابقة‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنّ التّخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذًى، وغير المعذور جنايته أغلظ، فتتغلّظ عقوبته، وذلك بنفي التّخيير في حقّه‏.‏

150 - وأمّا المعذور بغير الأذى والمرض‏:‏ كالنّاسي والجاهل بالحكم والمكره والنّائم والمغمى عليه، فحكمه عند الحنفيّة المالكيّة حكم العامد، على ما سبق‏.‏ ووجه حكمه هذا‏:‏ أنّ الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه، كما وجّهه الحنفيّة‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّمييز بين جناية فيها إتلاف، وهي هنا الحلق أو قصّ الشّعر أو قلم الظّفر، وجناية ليس فيها إتلاف، وهي‏:‏ اللّبس وتغطية الرّأس، والادّهان والتّطيّب‏.‏ فأوجبوا الفدية في الإتلاف؛ لأنّه يستوي عمده وسهوه، ولم يوجبوا فديةً في غير الإتلاف، بل أسقطوا الكفّارة عن صاحب أيّ عذر من هذه الأعذار‏.‏

تفصيل كفّارة محظورات التّرفّه

151 - الأصل في هذا التّفصيل هو القياس على الأصل السّابق المنصوص عليه في الكتاب والسّنّة بخصوص الحلق، فقاس الفقهاء عليه سائر مسائل الفصل بجامع اشتراك الجميع في العلّة وهي التّرفّه، أو الارتفاق‏.‏ وقد اختلفوا في بعض التّفاصيل، في القدر الّذي يوجب الفدية من المحظور، وفي تفاوت الجزاء بتفاوت الجناية، وذلك بسبب اختلاف أنظارهم في المقدار الّذي يحصل به التّرفّه والارتفاق الّذي هو علّة وجوب الفدية، فالحنفيّة اشترطوا كمال الجناية، فلم يوجبوا الدّم أو الفداء إلاّ لمقادير تحقّق ذلك في نظرهم، وغيرهم مال إلى اعتبار الفعل نفسه جنايةً‏.‏ وتفصيل المذاهب في كلّ محظور من محظورات التّرفّه فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ اللّباس‏:‏

152 - من لبس شيئاً من محظور اللّبس، أو ارتكب تغطية الرّأس، أو غير ذلك، فقال فقهاء الحنفيّة‏:‏ إن استدام ذلك نهاراً كاملاً أو ليلةً وجب عليه الدّم‏.‏ وكذا إذا غطّت المرأة وجهها بساتر يلامس بشرتها على ما سبق من التّفصيل فيه ‏(‏ف 67‏)‏ وإن كان أقلّ من يوم أو أقلّ من ليلة فعليه صدقة عند الحنفيّة‏.‏ وفي أقلّ من ساعة عرفيّة قبضة من برّ، وهي مقدار ما يحمل الكفّ‏.‏ ومذهب الشّافعيّ وأحمد أنّه يجب الفداء بمجرّد اللّبس، ولو لم يستمرّ زمناً؛ لأنّ الارتفاق يحصل بالاشتمال على الثّوب، ويحصل محظور الإحرام، فلا يتقيّد وجوب الفدية بالزّمن‏.‏ وعند المالكيّة يشترط لوجوب الفدية من لبس الثّوب أو الخفّ أو غيرهما من محظورات اللّبس أن ينتفع به من حرّ أو برد، فإن لم ينتفع به من حرّ أو برد بأن لبس قميصاً رقيقاً لا يقي حرّاً ولا برداً يجب الفداء إن امتدّ لبسه مدّةً كاليوم‏.‏

ثانياً‏:‏ التّطيّب‏:‏

153 - يجب الفداء عند الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأيّ تطيّب ممّا سبق بيان حظره، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً، أو مقداراً من الثّوب معيّناً‏.‏ وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب، وفصّلوا‏:‏ أمّا في البدن فقالوا‏:‏ تجب شاة إن طيّب المحرم عضواً كاملاً مثل الرّأس واليد والسّاق، أو ما يبلغ عضواً كاملاً‏.‏ والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد مجلس التّطيّب، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة، وتجب إزالة الطّيب، فلو ذبح ولم يزله لزمه دم آخر‏.‏ ووجه وجوب الشّاة‏:‏ أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق، وذلك في العضو الكامل، فيترتّب كمال الموجب‏.‏ وإن طيّب أقلّ من عضو فعليه الصّدقة لقصور الجناية، إلاّ أن يكون الطّيب كثيراً فعليه دم‏.‏ ولم يشرط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء، بل يجب بمجرّد التّطيّب‏.‏ وأمّا تطييب الثّوب‏:‏ فيجب فيه الدّم عند الحنفيّة بشرطين‏:‏ أوّلهما‏:‏ أن يكون كثيراً، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحةً تزيد على شبر في شبر‏.‏ والثّاني‏:‏ أن يستمرّ نهاراً، أو ليلةً‏.‏ فإن اختلّ أحد الشّرطين وجبت الصّدقة، وإن اختلّ الشّرطان معاً وجب التّصدّق بقبضة من قمح‏.‏

154 - لو طيّب محرم محرماً أو حلالاً فلا شيء على الفاعل ما لم يمسّ الطّيب، عند الحنفيّة‏.‏ وعلى الطّرف الآخر الدّم إن كان محرماً وإن كان مكرهاً‏.‏ وعند الثّلاثة التّفصيل الآتي في مسألة الحلق ‏(‏ف 157‏)‏ لكن عليه في حال لا تلزمه فيه الفدية ألاّ يستديمه، بل يبادر بإزالته‏.‏ فإن تراخى لزمه الفداء‏.‏

ثالثاً‏:‏ الحلق أو التّقصير‏:‏

155 - مذهب الحنفيّة أنّ من حلق ربع رأسه أو ربع لحيته يجب عليه دم؛ لأنّ الرّبع يقوم مقام الكلّ، فيجب فيه الفداء الّذي دلّت عليه الآية الكريمة‏.‏ ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكلّ بدنه في مجلس واحد فعليه دم واحد، وإن اختلفت المجالس فلكلّ مجلس موجبه‏.‏ وإن حلق خصلةً من شعره أقلّ من الرّبع يجب عليه الصّدقة، أمّا إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحكّ ثلاث شعرات فعليه بكلّ شعرة صدقة ‏(‏كفّ من طعام‏)‏‏.‏ وإن حلق رقبته كلّها، أو إبطيه، أو أحدهما، يجب الدّم‏.‏ أمّا إن حلق بعض واحد منهما، وإن كثر‏.‏ فتجب الصّدقة؛ لأنّ حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها، فلا يجب إلاّ الصّدقة‏.‏ وقرّر الحنفيّة أنّ في حلق الشّارب حكومة عدل، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللّحية، فيجب عليه بحسابه من الطّعام‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخذ عشر شعرات فأقلّ، ولم يقصد إزالة الأذى، يجب عليه أن يتصدّق بحفنة قمح، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية، ولو كانت شعرةً واحدةً‏.‏ وتجب الفدية أيضاً إذا أزال أكثر من عشر شعرات لأيّ سبب كان‏.‏ وشعر البدن كلّه سواء‏.‏ وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات فأكثر، كما تجب لو حلق جميع الرّأس، بل جميع البدن، بشرط اتّحاد المجلس، أي الزّمان والمكان‏.‏ ولو حلق شعرةً أو شعرتين ففي شعرة مدّ، وفي شعرتين مدّان من القمح، وسواء في ذلك كلّه شعر الرّأس وشعر البدن‏.‏

156 - أمّا إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدميّ فلا فدية باتّفاق المذاهب‏.‏

157 - إذا حلق محرم رأس غيره، أو حلق غيره رأسه - ومحلّ المسألة إذا كان الحلق لغير التّحلّل - فعلى المحرم المحلوق الدّم عند الحنفيّة، ولو كان كارهاً‏.‏ وأمّا غيرهم فعندهم تفصيل في حقّ الحالق والمحلوق‏.‏ ولهذه المسألة ثلاث صور تقتضيها القسمة العقليّة نبيّن حكمها فيما يلي‏:‏ الصّورة الأولى‏:‏ أن يكونا محرمين، فعلى المحرم الحالق صدقة عند الحنفيّة، سواء حلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعاً أو مكرهاً، ما لم يكن حلقه في أوان الحلق‏.‏ فإن كان فيه، فلا شيء عليه‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن حلق له بغير رضاه فالفدية على الحالق، وإن كان برضاه فعلى المحلوق فدية، وعلى الحالق فدية، وقيل حفنة‏.‏ الصّورة الثّانية‏:‏ أن يكون الحالق محرماً والمحلوق حلالاً، فكذلك على الحالق المحرم صدقة عند الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يفتدي الحالق‏.‏ وعندهم في تفسيره قولان‏:‏ قول أنّه يطعم قدر حفنة، أي ملء يد واحدة من طعام، وقول أنّ عليه الفدية‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا فدية على الحالق، ولو حلق له المحرم بغير إذنه، إذ لا حرمة لشعره في حقّ الإحرام‏.‏ الصّورة الثّالثة‏:‏ أن يكون الحالق حلالاً والمحلوق محرماً، فعلى الحالق صدقة عند الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن كان بإذن المحرم أو عدم ممانعته فعلى المحرم الفدية‏.‏ وإن كان الحلق بغير إذن المحرم فعلى الحلال الفدية‏.‏

رابعاً‏:‏ تقليم الأظفار‏:‏

158 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا قصّ أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة‏.‏ وكذا إذا قصّ أظفار يد واحدة، أو رجل واحدة، تجب شاة‏.‏ وإن قصّ أقلّ من خمسة أظفار من يد واحدة، أو خمسةً متفرّقةً من أظفاره، تجب عليه صدقة لكلّ ظفر‏.‏ ومذهب المالكيّة أنّه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفّهاً، لا لإماطة أذًى، ولا لكسره، يجب عليه صدقة‏:‏ حفنة من طعام‏.‏ فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية‏.‏ وإن قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذّى منه‏.‏ ويقتصر على ما كسر منه‏.‏ وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد ففدية، ولو لم يقصد إماطة الأذى، وإن قطع واحداً بعد آخر فإن كانا في فور ففدية، وإلاّ ففي كلّ ظفر حفنة‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد، ويجب في الظّفر والظّفرين ما يجب في الشّعرتين‏.‏

خامساً‏:‏ قتل القمل‏:‏

159 - وهو ملحق بهذا المبحث؛ لأنّ فيه إزالة الأذى، لذا يختصّ البحث بما على بدن المحرم أو ثيابه‏.‏ فقد ذهب الشّافعيّة إلى ندب قتل المحرم لقمل بدنه وثيابه لأنّه من الحيوانات المؤذية، وقد صحّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق الخمس في الحلّ والحرم، وألحقوا بها كلّ حيوان مؤذ‏.‏ أمّا قمل شعر الرّأس واللّحية خاصّةً فيكره تنزيهاً تعرّضه له لئلاّ ينتتف الشّعر‏.‏ ومقتضى تعليلهم الكراهة بالخوف من انتتاف الشّعر زوال هذه الكراهة فيما لو قتله بوسيلة لا يخشى معها الانتتاف كما إذا رشّه بدواء مطهّر مثلاً‏.‏ وعلى أيّة حال فإذا قتل قمل شعر رأسه ولحيته لم يلزمه شيء لكن يستحبّ له أن يفدي الواحدة منه ولو بلقمة‏.‏ وفي رواية عن أحمد إباحة قتل القمل مطلقاً دون تفريق بين قمل الرّأس وغيره لأنّه من أكثر الهوامّ أذًى فأبيح قتله كالبراغيث، وسائر ما يؤذي‏.‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم» يدلّ بمعناه على إباحة قتل كلّ ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم‏.‏ وفي رواية أخرى عنه حرمة قتله، إلاّ أنّه لا جزاء فيه إذ لا قيمة له وليس بصيد‏.‏ وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الصّدقة ولا ريب أنّه إذا آذاه بالفعل، ولم يمكنه التّخلّص منه إلاّ بقتله، جاز له قتله طبقاً لقاعدة‏:‏ «الضّرر يزال»، وقاعدة‏:‏ «الضّرورات تبيح المحظورات»‏.‏

المبحث الثّاني‏:‏ في قتل الصّيد وما يتعلّق به

160 - أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصّيد، استدلالاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام‏}‏‏.‏

أوّلاً‏:‏ قتل الصّيد‏:‏

161 - وجوب الجزاء في قتل الصّيد عمداً متّفق عليه عملاً بنصّ الآية الكريمة السّابقة‏.‏ 162 - إنّ غير العمد في هذا الباب كالعمد، يجب فيه الجزاء باتّفاق المذاهب الأربعة؛ لأنّ العقوبة هنا شرعت ضماناً للمتلف، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسّهو والنّسيان‏.‏

163 - إنّ هذا الجزاء هو كما نصّت الآية‏:‏ ‏{‏مثل ما قتل من النّعم‏}‏‏.‏ ويخيّر فيه بين الخصال الثّلاث‏.‏ لكن اختلفوا بعد هذا في تفسير هذين الأمرين‏:‏ ذهب الحنفيّة‏:‏ إلى أنّه تقدّر قيمة الصّيد بتقويم رجلين عدلين، سواء أكان للصّيد المقتول نظير من النّعم أم لم يكن له نظير‏.‏ وتعتبر القيمة في موضع قتله، ثمّ يخيّر الجاني بين ثلاثة أمور‏:‏ الأوّل - أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً‏.‏ ويزاد على الهدي في مأكول اللّحم إلى اثنين أو أكثر إن زادت قيمته، لكنّه لا يتجاوز هدياً واحداً في غير مأكول اللّحم، حتّى لو قتل فيلاً لا يجب عليه أكثر من شاة‏.‏ الثّاني - أن يشتري بالقيمة طعاماً ويتصدّق به على المساكين، لكلّ مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر كما في صدقة الفطر‏.‏ ولا يجوز أن يعطي المسكين أقلّ ممّا ذكر، إلاّ إن فضل من الطّعام أقلّ منه، فيجوز أن يتصدّق به‏.‏ ولا يختصّ التّصدّق بمساكين الحرم‏.‏ الثّالث - أن يصوم عن طعام كلّ مسكين يوماً، وعن أقلّ من نصف صاع - إذا فضل - يوماً أيضاً‏.‏ وذهب الأئمّة الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى التّفصيل فقالوا‏:‏ الصّيد ضربان‏:‏ مثليّ‏:‏ وهو ما له مثل من النّعم، أي مشابه في الخلقة من النّعم، وهي الإبل والبقر والغنم‏.‏ وغير مثليّ، وهو ما لا يشبه شيئاً من النّعم‏.‏ أمّا المثليّ‏:‏ فجزاؤه على التّخيير والتّعديل، أي أنّ القاتل يخيّر بين ثلاثة أشياء على الوجه التّالي‏:‏ الأوّل - أن يذبح المثل المشابه من النّعم في الحرم، ويتصدّق به على مساكين الحرم‏.‏ الثّاني - أن يقوّم المثل دراهم ثمّ يشتري بها طعاماً، ويتصدّق به على مساكين الحرم‏.‏ ولا يجوز تفرقة الدّراهم عليهم‏.‏ وقال مالك بل يقوّم الصّيد نفسه ويشتري به طعاماً يتصدّق به على مساكين موضع الصّيد، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع فيه‏.‏ الثّالث - إن شاء صام عن كلّ مدّ يوماً‏.‏ وفي أقلّ من مدّ يجب صيام يوم‏.‏ ويجوز الصّيام في الحرم وفي جميع البلاد‏.‏ وأمّا غير المثليّ‏:‏ فيجب فيه قيمته ويتخيّر فيها بين أمرين‏:‏ الأوّل - أن يشتري بها طعاماً يتصدّق به على مساكين الحرم، وعند مالك‏:‏ على المساكين في موضع الصّيد‏.‏ الثّاني - أن يصوم عن كلّ مدّ يوماً كما ذكر سابقاً‏.‏ ثمّ قالوا في بيان المثليّ‏:‏ المعتبر فيه التّشابه في الصّورة والخلقة‏.‏ وكلّ ما ورد فيه نقل عن السّلف فيتبع؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏، وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان فطنان بهذا الأمر، عملاً بالآية‏.‏ ويختلف الحكم فيه بين الدّوابّ والطّيور‏:‏ أمّا الدّوابّ ففي النّعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسيّة، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة‏.‏ وعند مالك في الأرنب واليربوع والضّبّ القيمة‏.‏ وأمّا الطّيور‏:‏ ففي أنواع الحمام شاة‏.‏ والمراد بالحمام كلّ ما عبّ في الماء، وهو أن يشربه جرعاً، فيدخل فيه اليمام اللّواتي يألفن البيوت، والقمريّ، والقطا‏.‏ والعرب تسمّي كلّ مطوّق حماماً‏.‏ وإن كان الطّائر أصغر من الحمام جثّةً ففيه القيمة‏.‏ وإن كان أكبر من الحمام، كالبطّة والإوزّة، فالأصحّ أنّه يجب فيه القيمة، إذ لا مثل له‏.‏ وقال مالك‏:‏ تجب شاة في حمام مكّة والحرم ويمامهما، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة، وكذا في سائر الطّيور‏.‏

164 - وعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الواجب في الكبير والصّغير والسّمين والهزيل والمريض من الصّيد المثليّ مثله من النّعم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاء مثل ما قتل‏}‏ وهذا مثليّ فيجزئ‏.‏ وقال مالك‏:‏ يجب فيه كبير؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏‏؟‏ والصّغير لا يكون هدياً، وإنّما يجزئ في الهدي ما يجزئ في الأضحيّة‏.‏

ثانيا‏:‏ً إصابة الصّيد

165 - إذا أصاب الصّيد بضرر، ولم يقتله، يجب عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة عند الثّلاثة‏:‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ فإن جرح المحرم صيداً، أو نتف شعره‏.‏ ضمن قيمة ما نقص منه، اعتباراً للجزء بالكلّ، فكما تجب القيمة بالكلّ تجب بالجزء‏.‏ وهذا الجزاء يجب إذا برئ الحيوان وظهر أثر الجناية عليه، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن عند الحنفيّة، لزوال الموجب‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة إن جرح صيداً يجب عليه قدر النّقص من مثله من النّعم إن كان مثليّاً، وإلاّ بقدر ما نقص من قيمته، وإذا أحدث به عاهةً مستديمةً فوجهان عندهم، أصحّهما يلزمه جزاء كامل‏.‏ أمّا إذا أصابه إصابةً أزالت امتناعه عمّن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً عند الحنفيّة والحنابلة، وهو أحد القولين عند الشّافعيّة؛ لأنّه فوّت عليه الأمن بهذا‏.‏ وفي قول عند الشّافعيّة‏:‏ يضمن النّقص فقط‏.‏ أمّا المالكيّة فعندهم لا يضمن ما غلب على ظنّه سلامته من الصّيد بإصابته بنقص، ولا جزاء عليه، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته‏.‏

ثالثاً‏:‏ حلب الصّيد أو كسر بيضه أو جزّ صوفه

166 - يجب فيه قيمة كلّ من اللّبن والبيض والصّوف عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ويضمن أيضاً قيمة ما يلحق الصّيد نفسه من نقص بسبب من ذلك‏.‏ ونصّ المالكيّة على البيض أنّ فيه عشر دية الأمّ ما لم يخرج منه فرخ ويستهلّ ثمّ يموت، فإنّه حينئذ يلزمه الدّية كاملةً‏.‏ وهذا الأخير متّفق عليه‏.‏

رابعاً‏:‏ التّسبّب في قتل الصّيد

167 - يجب في التّسبّب بقتل الصّيد الجزاء، وذلك‏:‏

1 - بأن يصيح به وينفّره، فيتسبّب ذلك بموته‏.‏

2 - بنصب شبكة وقع بها صيد فمات، أو إرسال كلب‏.‏

3 - المشاركة بقتل الصّيد، كأن يمسكه ليقتله آخر، أو يذبحه‏.‏

4 - الدّلالة على الصّيد، أو الإشارة، أو الإعانة بغير المشاركة في اليد، كمناولة آلة أو سلاح، يضمن فاعلها عند الحنفيّة والحنابلة، ولا يضمن عند المالكيّة والشّافعيّة‏.‏

خامساً‏:‏ التّعدّي بوضع اليد على الصّيد

168 - إذا مات الصّيد في يده فعليه الجزاء؛ لأنّه تعدّى بوضع اليد عليه فيضمنه ولو كان وديعةً‏.‏

سادساً‏:‏ أكل المحرم من ذبيحة الصّيد أو قتيله

169 - إن أكل المحرم من ذبيحة أو صيد محرم أو ذبيحة صيد الحرم فلا ضمان عليه للأكل، ولو كان هو قاتل الصّيد أيضاً أو ذابحه فلا جزاء عليه للأكل، إنّما عليه جزاء قتل الصّيد أو ذبحه إن فعل ذلك هو، وذلك عند جمهور العلماء، ومنهم الأئمّة الثّلاثة، وصاحبا أبي حنيفة‏.‏ وقال أبو حنيفة كذلك بالنّسبة للمحرم إذا أكل من صيد غيره، أو صيد الحرم إذا أكل منه الحلال الّذي صاده، وأوجب على المحرم إذا أكل من صيده أو ذبيحته من الصّيد الضّمان سواء أكل منه قبل الضّمان أو بعده‏.‏ استدلّ الجمهور بأنّه صيد مضمون بالجزاء، فلم يضمن ثانياً، كما لو أتلفه بغير الأكل؛ ولأنّ تحريمه لكونه ميتةً، والميتة لا تضمن بالجزاء‏.‏ واستدلّ أبو حنيفة بأنّ ‏"‏ حرمته باعتبار أنّه محظور إحرامه؛ لأنّ إحرامه هو الّذي أخرج الصّيد عن المحلّيّة، والذّابح عن الأهليّة في حقّ الذّكاة، فصارت حرمة التّناول بهذه الوسائط مضافةً إلى إحرامه»‏.‏

المبحث الثّالث‏:‏ في الجماع ودواعيه

170 - اتّفق العلماء على أنّ الجماع في حالة الإحرام جناية يجب فيها الجزاء‏.‏ والجمهور على أنّ العامد والجاهل والسّاهي والنّاسي والمكره في ذلك سواء‏.‏ وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ «لأنّه معنًى يتعلّق به قضاء الحجّ، فاستوى عمده وسهوه كالفوات»‏.‏ لكن استثنى الحنابلة من الفداء الموطوءة كرهاً، فقالوا‏:‏ لا فداء عليها، بل يجب عليها القضاء فقط‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ النّاسي والمجنون والمغمى عليه والنّائم والمكره والجاهل لقرب عهده بالإسلام أو نشوئه ببادية بعيدة عن العلماء، فلا يفسد الإحرام بالنّسبة إليهم بالجماع‏.‏

أوّلاً‏:‏ الجماع في إحرام الحجّ‏:‏

يكون الجماع في إحرام الحجّ جنايةً في ثلاثة أحوال‏:‏

171 - الأوّل - الجماع قبل الوقوف بعرفة‏.‏ فمن جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء، ووجب عليه ثلاثة أمور‏:‏

1 - الاستمرار في حجّه الفاسد إلى نهايته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه‏}‏ وجه الاستدلال أنّه ‏"‏ لم يفرّق بين صحيح وفاسد»‏.‏

2 - أداء حجّ جديد في المستقبل قضاءً للحجّة الفاسدة، ولو كانت نافلةً‏.‏ ويستحبّ أن يفترقا في حجّة القضاء هذه عند الأئمّة الثّلاثة منذ الإحرام بحجّة القضاء، وأوجب المالكيّة عليهما الافتراق‏.‏

3 - ذبح الهدي في حجّة القضاء‏.‏ وهو عند الحنفيّة شاة، وقال الأئمّة الثّلاثة‏:‏ لا تجزئ الشّاة، بل يجب عليه بدنة‏.‏ استدلّ الحنفيّة بما ورد أنّ «رجلاً جامع امرأته وهما محرمان، فسألا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لهما‏:‏ اقضيا نسككما وأهديا هدياً» رواه أبو داود في المراسيل والبيهقيّ، وبما روي من الآثار عن الصّحابة أنّه يجب عليه شاة‏.‏ واستدلّ الجمهور بما قال الرّمليّ‏:‏ «لفتوى جماعة من الصّحابة، ولم يعرف لهم مخالف»‏.‏

172 - الثّاني‏:‏ الجماع بعد الوقوف قبل التّحلّل الأوّل‏:‏ فمن جامع بعد الوقوف قبل التّحلّل يفسد حجّه، وعليه بدنة - كما هو الحال قبل الوقوف - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفسد حجّه، ويجب عليه أن يهدي بدنةً‏.‏ استدلّ الثّلاثة‏:‏ بما روي عن ابن عمر أنّ رجلاً سأله فقال‏:‏ إنّي وقعت على امرأتي ونحن محرمان‏؟‏ فقال‏:‏ أفسدت حجّك‏.‏ انطلق أنت وأهلك مع النّاس، فاقضوا ما يقضون، وحلّ إذا حلّوا‏.‏ فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك، وأهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةً إذا رجعتم‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنّه ونحوه ممّا روي عن الصّحابة مطلق في المحرم إذا جامع، لا تفصيل فيه بين ما قبل الوقوف وبين ما بعده، فيكون حكمهما واحداً، وهو الفساد ووجوب بدنة‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحجّ عرفة»‏.‏ أخرجه أحمد وأصحاب السّنن والحاكم، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث «عروة بن مضرّس الطّائيّ‏:‏ وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه» أخرجه أحمد وأصحاب السّنن، وصحّحه التّرمذيّ، وقال الحاكم‏:‏ «صحيح على شرط كافّة أئمّة الحديث»‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنّ حقيقة تمام الحجّ المتبادرة من الحديثين غير مرادة؛ لبقاء طواف الزّيارة، وهو ركن إجماعاً، فتعيّن القول بأنّ الحجّ قد تمّ حكماً، والتّمام الحكميّ يكون بالأمن من فساد الحجّ بعده، فأفاد الحديث أنّ الحجّ لا يفسد بعد عرفة مهما صنع المحرم‏.‏ وإنّما أوجبنا البدنة بما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنًى قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنةً‏.‏ رواه مالك وابن أبي شيبة‏.‏

173 - الثّالث‏:‏ الجماع بعد التّحلّل الأوّل‏:‏ اتّفقوا على أنّ الجماع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ‏.‏ وألحق المالكيّة به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل الرّمي، والجماع بعد يوم النّحر قبل الرّمي والإفاضة‏.‏ ووقع الخلاف في الجزاء الواجب‏:‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه شاة‏.‏ قالوا في الاستدلال‏:‏ «لخفّة الجناية، لوجود التّحلّل في حقّ غير النّساء»‏.‏ وقال مالك، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجب عليه بدنة‏.‏ وعلّله الباجيّ بأنّه لعظم الجناية على الإحرام‏.‏ وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذه الجناية بعد التّحلّل الأوّل قبل الإفاضة أن يخرج إلى الحلّ، ويأتي بعمرة، لقول ابن عبّاس ذلك‏.‏ قال الباجيّ في المنتقى‏:‏ «وذلك لأنّه لمّا أدخل النّقص على طوافه للإفاضة بما أصاب من الوطء كان عليه أن يقضيه بطواف سالم إحرامه من ذلك النّقص، ولا يصلح أن يكون الطّواف في إحرام إلاّ في حجّ أو عمرة»‏.‏ ولم يوجب الحنفيّة والشّافعيّة ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ الجماع في إحرام العمرة

174 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة، وهو الطّواف أربعة أشواط، تفسد عمرته، أمّا لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة؛ لأنّه بأداء الرّكن أمن الفساد‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشرط فسدت، أمّا لو وقع بعد تمام السّعي قبل الحلق فلا تفسد؛ لأنّه بالسّعي تتمّ أركانها، والحلق من شروط الكمال عندهم‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه إذا حصل المفسد قبل التّحلّل من العمرة فسدت‏.‏ والتّحلّل بالحلق، وهو ركن عند الشّافعيّة واجب عند الحنابلة‏.‏ 175 يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحجّ من الاستمرار فيها، والقضاء والفداء باتّفاق العلماء‏.‏ لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة‏:‏ فمذهب الحنفيّة والحنابلة وأحد القولين عند الشّافعيّة أنّه يلزمه شاة؛ لأنّ العمرة أقلّ رتبةً من الحجّ، فخفّت جنايتها، فوجبت شاة‏.‏ ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يلزمه بدنة قياساً على الحجّ‏.‏ أمّا فداء الجماع الّذي لا يفسد العمرة فشاة فقط عند الحنفيّة وبدنة عند المالكيّة‏.‏

ثالثاً‏:‏ مقدّمات الجماع

176 - المقدّمات المباشرة أو القريبة، كاللّمس بشهوة، والتّقبيل، والمباشرة بغير جماع‏:‏ يجب على من فعل شيئاً منها الدّم سواء أنزل منيّاً أو لم ينزل‏.‏ ولا يفسد حجّه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا‏:‏ إن أنزل وجب عليه بدنة‏.‏ ومذهب المالكيّة‏:‏ إن أنزل بمقدّمات الجماع منيّاً فحكمه حكم الجماع في إفساد الحجّ، وعليه ما على المجامع ممّا ذكر سابقاً، وإن لم ينزل فليهد بدنةً‏.‏

177 - المقدّمات البعيدة‏:‏ كالنّظر بشهوة والتّفكّر كذلك، صرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يجب في شيء منهما الفداء، ولو أدّى إلى الإنزال‏.‏ وهو مذهب الحنابلة في الفكر‏.‏ ومذهب المالكيّة‏:‏ إذا فعل أيّ واحد منها بقصد اللّذّة، واستدامه حتّى خرج المنيّ، فهو كالجماع في إفساد الحجّ‏.‏ وإن خرج المنيّ بمجرّد الفكر أو النّظر من غير استدامة فلا يفسد، وإنّما فيه الهدي ‏(‏بدنة‏)‏‏.‏ ومذهب الحنابلة‏:‏ إن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم، وإن كرّر النّظر حتّى أمنى فعليه بدنة‏.‏

رابعاً‏:‏ في جماع القارن

178 - قرّر الحنفيّة في جماع القارن - بناءً على مذهبهم أنّه يطوف طوافين ويسعى سعيين - التّفصيل الآتي‏:‏

1 - إن جامع قبل الوقوف، وقبل طواف العمرة، فسد حجّه وعمرته كلاهما، وعليه المضيّ فيهما، وعليه شاتان للجناية على إحرامهما، وعليه قضاؤهما، وسقط عنه دم القران‏.‏

2 - إن جامع بعدما طاف لعمرته كلّ أشواطه أو أكثرها فسد حجّه دون عمرته لأنّه أدّى ركنها قبل الجماع، وسقط عنه دم القران، وعليه دمان لجنايته المتكرّرة حكماً، دم لفساد الحجّ، ودم للجماع في إحرام العمرة لعدم تحلّله منها، وعليه قضاء الحجّ فقط، لصحّة عمرته‏.‏

3 - إن جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف قبل الحلق ولو بعرفة لم يفسد الحجّ ولا العمرة، لإدراكه ركنهما، ولا يسقط عنه دم القران؛ لصحّة أداء الحجّ والعمرة، لكن عليه بدنة للحجّ وشاة للعمرة‏.‏

4 - لو لم يطف لعمرته - ثمّ جامع بعد الوقوف - فعليه بدنة للحجّ، وشاة لرفض العمرة، وقضاؤها‏.‏

5 - لو طاف القارن طواف الزّيارة قبل الحلق، ثمّ جامع، فعليه شاتان بناءً على وقوع الجناية على إحراميه؛ لعدم التّحلّل الأوّل المرتّب عليه التّحلّل الثّاني‏.‏

المبحث الرّابع‏:‏ في أحكام كفّارات محظورات الإحرام

كفّارات محظورات الإحرام أربعة أمور، هي‏:‏ الهدي، والصّدقة، والصّيام، والقضاء، والكلام هنا على أحكامها الخاصّة بهذا الموضوع‏:‏

المطلب الأوّل‏:‏ الهدي‏.‏

179 - تراعى في الهدي وذبحه وأنواعه الشّروط والأحكام الموضّحة في مصطلح «هدي»‏.‏

المطلب الثّاني‏:‏ الصّدقة

180 - يراعى في المال الّذي تخرج منه الصّدقة أن يكون من الأصناف الّتي تخرج منها صدقة الفطر، كما تراعى أحكام الزّكاة في الفقير الّذي تدفع إليه‏.‏ ويراعى في إخراج القيمة، ومقدار الصّدقة لكلّ مسكين ما هو مقرّر في صدقة الفطر، وهذا في الإطعام الواجب في الفدية‏.‏ وأمّا في جزاء الصّيد فالمالكيّة والشّافعيّة لم يقيّدوا الصّدقة فيه بمقدار معيّن‏.‏ وتفصيلات ذلك وآراء الفقهاء يرجع إليها في مصطلح هدي وكفّارة وصدقة الفطر‏.‏

المطلب الثّالث‏:‏ الصّيام

181 - أوّلاً‏:‏ من كفّر بالصّيام يراعي فيه أحكام الصّيام ولا سيّما تبييت النّيّة بالنّسبة للواجب غير المعيّن ‏(‏ر‏:‏ صوم‏)‏‏.‏

182 - ثانياً‏:‏ الصّيام المقرّر جزاءً عن المحظور لا يتقيّد بزمان ولا مكان ولا تتابع اتّفاقاً، إلاّ الصّيام لمن عجز عن هدي القران والتّمتّع، فإنّه يصوم ثلاثة أيّام في الحجّ، وسبعةً إذا رجع إلى أهله‏.‏ فلا يصحّ صيام الأيّام الثّلاثة قبل أشهر الحجّ، ولا قبل إحرام الحجّ والعمرة في حقّ القارن، ولا قبل إحرام العمرة في حقّ المتمتّع اتّفاقاً‏.‏ أمّا تقديمها للمتمتّع على إحرام الحجّ فمنعه المالكيّة والشّافعيّة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ‏}‏ وأجازه الحنفيّة والحنابلة لأنّه كما قال ابن قدامة‏:‏ «وقت كامل جاز فيه نحر الهدي، فجاز فيه الصّيام، كبعد إحرام الحجّ‏.‏ ومعنى قوله تعالى ‏(‏في الحجّ‏)‏ أي في وقته»‏.‏ وأمّا الأيّام السّبعة الباقية على من عجز عن هدي القران والتّمتّع، فلا يصحّ صيامها إلاّ بعد أيّام التّشريق، ثمّ يجوز صيامها بعد الفراغ من أفعال الحجّ، ولو في مكّة، إذا مكث بها، عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏ والأفضل المستحبّ أن يصومها إذا رجع إلى أهله، وهو قول عند الشّافعيّة، لكن الأظهر عند الشّافعيّة أنّه يصوم الأيّام السّبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يجوز أن يصومها في الطّريق، إلاّ إذا أراد الإقامة بمكّة صامها بها‏.‏ والدّليل للجميع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبعة إذا رجعتم‏}‏‏.‏ فحمله الشّافعيّ على ظاهره، وقال غيرهم‏:‏ إنّ الفراغ من الحجّ هو المراد بالرّجوع، فكأنّه بالفراغ رجع عمّا كان مقبلاً عليه‏.‏

183 - ثالثاً‏:‏ من فاته أداء الأيّام الثّلاثة في الحجّ يقضيها عند الثّلاثة، ويرجع إلى الدّم عند الحنفيّة، لا يجزيه غيره‏.‏ وهو قول عند الحنابلة‏.‏ ثمّ عند المالكيّة، وهو قول عند الحنابلة‏:‏ إن صام بعضها قبل يوم النّحر كمّلها أيّام التّشريق، وإن أخّرها عن أيّام التّشريق صامها متى شاء، وصلها بالسّبعة أو لا‏.‏ ولم يجز الشّافعيّة والحنابلة في القول الآخر عندهم صيامها أيّام النّحر والتّشريق، بل يؤخّرها إلى ما بعد‏.‏

184 - ويجب عند الشّافعيّة في الأظهر في قضاء الأيّام الثّلاثة‏:‏ «أن يفرّق في قضائها بينها وبين السّبعة بقدر أربعة أيّام، يوم النّحر وأيّام التّشريق، ومدّة إمكان السّير إلى أهله، على العادة الغالبة، كما في الأداء، فلو صام عشرة أيّام متتاليةً حصلت الثّلاثة، ولا يعتدّ بالبقيّة لعدم التّفريق»‏.‏

المطلب الرّابع‏:‏ في القضاء

185 - وهو من واجب إفساد النّسك بالجماع‏.‏ ومن أحكامه ما يلي‏:‏ أوّلاً‏:‏ يراعى في قضاء النّسك أحكام الأداء العامّة، مع تعيين القضاء في نيّة الإحرام به‏.‏ ثانياً‏:‏ قال الحنفيّة وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ عليه القضاء من قابل أي من سنة آتية، ولم يجعلوه على الفور‏.‏ ومذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ القضاء واجب على الفور ولو كان النّسك الفاسد تطوّعاً، فيأتي بالعمرة عقب التّحلّل من العمرة الفاسدة، ويحجّ في العام القادم‏.‏ ثالثاً‏:‏ قرّر المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ المفسد عندما يقضي نسكه الفاسد يحرم في القضاء حيث أحرم في النّسك المفسد، فإن أحرم من الجحفة مثلاً أحرم في القضاء منها‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ إن سلك في القضاء طريقاً آخر أحرم من مثل مسافة الميقات الأوّل ما لم يجعله ذلك يجاوز الميقات بغير إحرام، فإنّه يحرم من الميقات‏.‏ وإن أحرم في العام الأوّل قبل المواقيت لزمه كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وعند المالكيّة لا يجب الإحرام بالقضاء إلاّ من المواقيت‏.‏ أمّا إن جاوز في العام الأوّل الميقات غير محرم فإنّه في القضاء يحرم من الميقات ولا يجوز أن يجاوزه غير محرم‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن تعدّى الميقات في عام الفساد لعذر مشروع ‏"‏ كأن يجاوز الميقات حلالاً لعدم إرادته دخول مكّة، ثمّ بعد ذلك أراد الدّخول، وأحرم بالحجّ، ثمّ أفسده، فإنّه في عام القضاء يحرم ممّا أحرم منه أوّلاً»‏.‏